يسجل حضورا متواضعا هنا كل أسبوع أبعد ما يكون عن الصورة النمطية الضيقة الشائعة عنه.. التي ربما يصدقها هو عن نفسه أحيانا...! *** خطا مسرعا وسط أروقة مبنى الشركة الكبرى الّتي يعمل بها ولهاثه لا يليق بلياقته البدنية. بدت المكاتب حوله بما تعج به من حركة دؤوبة للموظفين، ضبابية في عينيه... والدوار الذي كان يعصف برأسه جعله لا يميز إن كانت خطوات من أمامه ماضية أم بعكس اتجاهه..! ربما ساهمت الأوراق الّتي يحملها بين يديه، وتقطيبة حاجبيه في تضليل من يراه. لكن الحقيقة هي أنه كان يذرع الأرض ذهابا على غير هدى..! أنقذته اللوحة التي تشير إلى دورة المياه، فتبعها وولج دافعا باب المختلى بقوة واضعا أوراقه جانبا، متكئا بثقله على قبضتي يديه المشتعلتين كبقية جسده. ثم.. أخذت تسترخيان تدريجيا وترجفان على برودة رخام المغسل المصقول.. سرعان ما شعر بتلك الرجفة تمتد لكل ضلع في بدنه، وتهز كيانه ليخرج ما في جوفه من غثيان. بعد أن اغتسل أطلق تنهيدة يختلط فيها التعب بالامتنان. ممتن بداية إلى عدم وجود أحد إلى جانبه هنا ليشهد على إحدى ملامح انكساره. ثم ممتن أكثر لتجلي هذه الحقيقة الموجعة أمامه اليوم...! تعرفون ذلك الشّيء المؤلم الذي يحفر جرحا عميقا بداخل من يكتشف أن لعزيز له وجهان؟ نعم أعز أصدقائه، يقف له في طريق رزقه ورزق عياله. من جمعتهما وأبناءهما أكثر من سفرة خير عامرة تناولوا فيها عيشا وملحا .... من كان بوحهما لبعضهما البعض ونقاشهما دائما متوجا بالثقة والاحترام... من كان يرتدي معه لباس الصدق والشفافية والنقاء... سقط قناعه اليوم، وأسفر عن وجه لم يكن يخطر بباله يوما أنه يملكه. بتنهيدة أخرى .. استذكر حين دخل على مديره مستاء من المماطلة في قبول نقله للدائرة الوظيفية التي يرغب بها وهو من أقوى المؤهلين كفاءة لتطويرها ولاستحقاق مزاياها..! استذكر صدمته حين صارحه مديره «أن فلانا هو من يرفض تسهيل شغلك الوظيفة التي ترغب بها في إدارته». بل هو تحديدا من أخذ يعطل ويماطل طيلة الأسابيع الماضية كي يعيق وجودك في دائرته. وأرسل لك من ينفرك منها. ثم ختم قوله: «فلان لم يمقت يوما في حياته شيئا بقدر أن يعمل تحت إدارته من هو أكثر كفاءة منه فيكشف ضعفه..!». حضرة المواطن هنا هو أكثر من يعرف الفرق الشّاسع بين مؤهلاته العلمية ومنجزاته المهنية مقارنة بصديقه المذكور. والذي لا يملك سوى اللسان العذب والمبالغة في مديح نفسه وادعاء القدرات الخارقة بأسلوب تسويق للذات يخدع كثر للأسف ممن لديهم صلاحيات منح المناصب. ومع ذلك.. تواضعه وتصالحه مع نفسه لم يجعله يوما يضيق بتلك الحقيقة ذرعا أو يشعر بأن صديقه لا يستحق منصبه أو أن يستكثر عليه ما رزقه الله..! بل على العكس، كان دائما مشجعا ومواسيا له...! كيف يمكن أن ينحدر اليوم لمستوى منعه عن فرصة استحقها مهنيا ويحاربه في رزقه؟ هل هو الخوف وعدم الثقة بالذات التي توصل الإنسان لدرجة التضحية بصديق وفي يندر وجوده في هذا الزمان في مقابل أوهام نفس ضعيفة..؟ نعم هي النفوس الضعيفة التي جعلت من الوفاء أسطورة. أما مواطننا فسيواصل طريقه مكافحا وسينجح . رغم طعنات الأصدقاء، ومشهد الفشل المتكرر في نضج الناس أخلاقيا، وصعوبة ارتقائهم إنسانيا. إلّا أنه لن ينكسر، فهو في حد ذاته حقيقة. لاخرافة ولا أسطورة..!