(سيد القمني) في كتابه الأسطورة والتراث، واستناداً إلى مراجع عدة، يرى أن قرنَيْ الخروف أو الثور تحوَّرا مع الزمن إلى دلالة للقرابين، وتحور شكل القرنين ليغدو هلالاً، كون أن الديانة في جنوب الجزيرة كانت قمرية، وأن استخدام الهلال كرمز إسلامي جاء متأخراً، وهو يعزوه إلى هذه الأسطورة. ولا أريد الغوص كثيراً في التفاصيل هنا كونها شائكة وطويلة. لكن أساطير القمر المرتبطة بالمطر والنماء والكسوف كثيرة، ويعرفها الجدات وكبار السن في منطقة جازان، وأكثرها قد ضاع. وعندما كنا صغاراً ونحدق في القمر يخيل لنا أننا نرى شجراً وبقرة ترعى وطيوراً محلقة، وهكذا كان يقول لنا الكبار. مثلٌ آخر: أسطورة (جدة المطر)* التي يعرفها أهالي ساحل تهامة، فعندما كنا نجدها صبيحة المطر ونقوم بكسوتها من ثيابنا ونخاطبها بأن تكسونا في يوم الدينونة، كنا نفعل ذلك (ربما) دلالة رمزية لزمن القرابين وابتغاء لهطول المطر المحرض على الحياة. سأحاول الخروج إلى أساطير أقل جدلاً، فعندما ذهبت إلى القارة الهندية قبل ثلاثين عاماً رأيت مثلاً أن المرأة عندما تتزوج وعند دخول بيت زوجها يوضع تحت قدميها كمية من الأرز، تفاؤلاً بالغنى والرزق الطيب، وكانت المرأة ليلة انتقالها لبيت زوجها عندنا في جازان وربما كل تهامة يوضع تحت قدميها زنبيلا من الحبوب، ربما لم يَعُدْ هذا موجوداً، وربما لا يتذكره إلا القليل، لكنه كان، ورأيت هناك - أعني في القارة الهندية - أيضاً طقوس اللباس تكاد تتشابه مع طقوس اللباس هنا في الزواج وفي نقش الحناء ولبس الفل ووضع الزمام في الأنف ووضع ما يسمى (بالحُسن) وهو مسحوق أحمر في مفرق الرأس أو شعر الرأس، وهذه الأشياء ما زالت ملاحَظة في الثقافتين إلى الآن رغم أن هذه الممارسات هي ممارسات وثقافة هندوسية في الأصل. وأحب أن أشير هنا - ولكم الحق في الاختلاف معي - إلى أن القلق المفرط وربما الخوف على عقائد الناس محا الكثير من هذه الأساطير أو الممارسات الشعبية، وتعامل معها الناس كخرافات وشركيات مُنعت ثم طُمست أو نُسيت أو فُقدت؛ كونها كانت ثقافة شفاهية فقط. عندما زرتُ صديقاً في ساحل ماليزيا الشرقي كان يتحسر على طقوس كانت تقوم أثناء حصاد الأرز الموسمي، طقوس بها رقص وغناء ومشاعل، وتعود إلى أزمنة سحيقة، إلا أن التشدد الديني الذي وصل تلك المنطقة أوقفها، وهو يقول متحسراً إنه لا أحد يعرفها من أبنائه. مثال آخر: حكايات (البدة) التي (تخطف) الضحية، تميتها ثم تعيدها على شكل كائن آخر، يوجد لها مقابل في كتاب الموتى في مصر القديمة، وكذلك أسطورة (إيزيس وأوزوريس) وتتطابق مع الحكايات الشعبية لدينا التي تروي إعادة الحياة إلى الميت من خلال عضو واحد فيما يسمى ب (الشراوي) أو (الوليدة) أو الحكاية الشعبية التي كانت الجدات يروينها لنا قبل النوم. الجعل أو (الجعران) الذي كنا نجده ونحن نرعى ماشيتنا، وعندما كانت تضع أبقارنا (الروث)، تتوافد هذه الجعلان من حيث لا ندري، تقطع جزءاً من الروث وتكوره وتذهب به إلى أعماق الأرض، وعندما كنا نسأل الكبار لِمَ تفعل الجعران ذلك؟ كانوا يقولون لنا إنه يجمع مهراً لبنت عين الشمس، ولم يكن المسكين يفعل أكثر من أن يدفن بيضه في هذه الكرة لتفقس اليرقات وتجد ما تتغذى عليه وتحتمي به. قدماء المصريين في بلاد النوبة عبدوا هذه (الجعل) أو الجعران، وصنعوا له تماثيل كثيرة، وكانوا يرون في الكرات التي يدحرجها وتفوق وزنه كثيراً (رمزاً للشمس) لاحظوا الشمس ونحن نقول مهراً (لبنت عين الشمس) لاحظوا معي؟؟ ورأوا فيه تجسيداً للإله رع، والذين زاروا المتاحف المصرية شاهدوا تواجد الجعلان المقدس رمز البعث والخلود. مثال آخر: عندما كنا نستذكر دروسنا على أضواء الفوانيس تتواجد في بعض الليالي فراش وحشرات أكثر من المعتاد، وكان الكبار يقولون لنا إنها دلالة لقرب قدوم المطر، هذه الحكاية سمعتها من بائع ليلي في جزيرة بالي الإندونيسية عندما قلت له إن الحشرات الليلة تبدو أكثر، وقال إنها الليلة أو غداً ستمطر، كان يعتبرها دلالة دون أن يعرف لماذا كمثلنا أيضاً، وقد أثبتت الدراسات أخيراً أن هذه الحشرات قبل غيرها تستشعر رطوبة الهواء وتغدو أجنحتها الشفافة غير قادرة على حملها للأعالي؛ لأنها تبتل بفعل الرطوبة فتهبط، وهكذا كانت تأتي على أضواء فوانيسنا، ويهطل المطر أحياناً، وغدا حضورها دلالة أسطورية على أنها بشائر خير. وحتى قوس قزح الذي ليس أكثر من (موشور)** مائي يحلل ضوء الشمس لألوانه السبعة كنا نرى فيه دلالة على أنه يشتت السحب ويمحو المطر، مع أنه لا يظهر إلا بعد أن تسطع الشمس، إلا أن حضوره ارتبط بانقطاع المطر دون أن نعرف حينها تفسير هذه الأسطورة، أسطورة تشكل هذا القوس الكبير الملون. هناك الكثير والكثير من الأساطير والحكايات.. هذه الأساطير ساعدتنا وساعدت أجدادنا على تفسير العالم، وعلى التصالح مع العالم، وعلى فهم وجه الحياة، لم تعد، إنها تتلاشى، أساطير الجنيات و(البدات) و(الخضر) أو (الخضير) كما نسميه و(السعلاة) أو (السلعية) و(عبلة) و(أم الصبيان).. و(أبو مشعل) وغيرها. أساطير علاج الأمراض المستعصية ك (الخاشي) و(القوبة) و(المستطعن) و(الصرع)، أساطير الحيات والثعابين والجواهر المحروسة بالمردة كلها لم تعد، ولم تكتب، ولم تعرف، وحتماً اختفت وستختفي. وكلنا يقول ولِمَ لا تُكتب؟ ومَنْ يكتبها؟؟ الأفراد أو المؤسسات؟؟ أوليست أكثر من خرافات وشركيات وبدع؟ ويكاد يختصر كل تراث وأساطير المنطقة في الأكلات الشعبية وفي جلد طبل يرقص عليه الناس ويضحكون، ثم لا شيء. وأنا لا أدعي هنا أني أسرد حقائقَ لكني أخط سطراً ولعل البقية تأتي. من أرشيف الكاتب . ..