منذ البدء شعر الإنسان القديم بالخوف والفردانية والبحث عن عون وتفسير لوجه العالم. خاف من الرعد والبرق.. حيرته العواصف والأمطار ظاهرة الخسوف والكسوف.. الحيوانات المفترسة والحيات.. تبدل الفصول وأصوات الريح الغامضة، الرؤى والأحلام.. وكان يخاف الجوع والموت وقوى الطبيعة فلم يجد بدًّا من تفسيرها ضمن حدود وعيه المبكر، ومحاولة استرضائها بالقرابين والأدعية أحيانًا وبعبادتها أحيانًا.. أو الأمرين معًا. كان العالم في طفولته الأولى.. وكان كالأطفال يطرح أسئلته.. ربما الفرق هو أن هناك من يُعلم الأطفال الإجابات ويشرح لهم ما التبس عليهم؛ ولكن في ذلك العالم «البكر» لم يكن له بدٌّ من إيجاد إجاباته وتفسيراته بنفسه.. ومن هنا بدأت الأساطير. لكن هذا لا يعني أن الأسطورة محض خيال.. أو خرافات.. لقد كانت للعالم القديم واقعًا حقيقيًا وبه سارت حيواتهم، واختبروا العالم وحاولوا فهمه، وبتقادم الزمن نسوا منشئها وبواعثها الأولى؛ لكنها دخلت حياة الناس وثقافتهم وتفكيرهم ولغتهم وحتى هوياتهم. يقول الباحث السوري فراس السواح: «لا يعرف للأسطورة مؤلف معين.. لأنها ليست نتاج خيال فردي أو حكمة شخص بعينه؛ بل إنها ظاهرة جمعية تُعبّر عن تأملات الجماعة وحكمتها وخلاصة ثقافتها». ويقول عالم النفس الروسي غيرتسن: «إن الناس يتميزون بالمقدرة على الوصول إلى السبب الكامن وراء كل ما يجري من حولهم وهم يجدون أنه أفضل لهم اختراع ولو سببًا كاذبًا ووهميًا بدلًا من أن يبقوا في جهل مطبق». وعندما ذكر القرآن الكريم الأساطير في قوله تعالي: «وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا» (الفرقان)، وفي قوله تعالى: «حتى إذا جاءوك يجادلونك يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأولين» (الأنعام)، فهو لم يعنِ أنها خرافات لكنه كان يعني أن كفّار قريش كانوا يقولون أن محمّدًا صلّى الله عليه وسلم لم يأتِ بجديد، وإنما هي أخبار الأوّلين. يقول ابن كثير في تفسير الآية: «أي يا محمّد ما هذا الذي جئت به إلا مأخوذ من كتب الأوائل ومنقول عنهم». إذًا الأسطورة ليست بالضرورة خرافة، الأسطورة تختلف عن الخرافة.. الخرافة هي القناعة القائمة على غير معرفة؛ بينما الأسطورة معرفة تبدّلت وتشكّلت وشكّلت وعلى مدى العصور صورًا من الإدراك والانفعال وتأويل العالم.. يقول الباحث الأوروبي ميرتشا إيليادي: «إنها واحدة من أكثر الحقائق تعقيدًا وهي ظاهرة يمكن تأويلها بشتى الوجوه». وهكذا -باختصار- نشأت الأسطورة أو الأساطير أو التفسير الأولي وربما الغيبي للعالم. وتختلف الأساطير باختلاف الشعوب والحضارات.. غير أنها في نهاية المطاف تكاد تلتقي أو تتطابق عبر منشأ واحد أو متقارب.. وقد بحث جيمس فريز في كتابه «الغصن الذهبي» عن أصل ومنشأ الأسطورة وقبله وبعده الكثيرون. لكن حديثي هنا ليس عن الأسطورة والأساطير، فهذا يحتاج إلى أبحاث طويلة وإلى متخصصين في هذا المجال، وأعترف أني لست كذلك، وهذا ليس تواضعًا بقدر ما هو حقيقة، غير أني أعتقد أن هذه المقدمة ضرورية قبل أن أتطرق إلى ملامسة بعض الأساطير والحكايات والقصص الشعبية في منطقتنا؛ منطقة جازان خصوصًا وتهامة عمومًا. منطقة جازان والتي نعرفها جميعًا هي جزء من منطقة جنوب الجزيرة العربية التي اكتسبت منذ القدم مزية الاتصال بالعالم عن طريق البحر، سواء البحر الأحمر أو بحر العرب، مما جعل تراثها وأساطيرها وحكاياتها وبالمجمل ثقافتها مزيجًا من الثقافة العربية والهندية والأفريقية والمصرية القديمة (النوبية تحديدًا) والإغريقية.. وهناك الكثير من هذه الأساطير لو تتبعنا منشأها فإنه حتمًا ستقودنا نحو تلك الثقافات. منطقة جازان كذلك متنوعة التضاريس من جبال وغدران وأودية جارية وبحار وجزر، وكانت بها غابات وضواري ووحوش.. وآثار قديمة أتلف أكثرها، وضاع معظمها، وما زال الباقي منذورًا للإهمال. ولذا لم تأتِ أساطيرها أساطير جن وغيلان وخرافات وإنما جاءت أساطيرها متنوعة ومرتبطة بعوالم متنوعة من أديان وثقافات وحضارات، ومن وحي وطبيعة المكان. فالأساطير والحكايات المرتبطة بالأضاحي والقرابين والنذور مثلًا تعود إلى ديانات جنوب الجزيرة العربية القمرية، كون عبادة القمر كانت ديانة جنوبية. وأساطير وحكايات المطر والحصاد وتقمص الأرواح والكثير من طقوس الزواج تعود إلى أساطير وعادات منشأها القارة الهندية.. وأساطير وحكايات الموتى وإعادة الخلق تعود إلى الحضارة المصرية القديمة.. والبعض تعود للمثيولوجيا الإغريقية والأفريقية، وإلى الديانات التي عبرت من هنا ومن ضمنها اليهودية. وقد تمازجت هذه الأساطير مع الثقافة والبيئة المحلية وعلى مدى آلاف السنين مكونة بنيوية الحكاية الشعبية، وتعمقت داخل اللغة مفرزة بنيوية اللغة (الأنثروبيولوجية) تأكيدًا لنظرية ليفي شترواس البنيوية في تعريف اللغة والتي يعيدها إلى أصول الأنثربيولوجيا أو ما يسمى (بعلم الإنسان)، كما أوضح في كتابيه «الفكر البري» و«مدارات حزينة»، مخالفًا رائد البنيوية الآخر عالم اللغة السويسري (دي سوسير)، والذي ينظر إلى اللغة على أنها محتوى تأريخي وثقافي.. بل ركز -وأعني (شتراوس)- على دراسة بنيتها التحتية اللاواعية، منطلقًا من إعادة دراسة منشأ اللغة من الحكايات والأساطير، ولتأكيد ذلك ذهب بعيدًا إلى غابات الأمازون وجزر سليمان وغينيا الجديدة وحتى بنغلاديش وإلى أماكن أخرى ما زالت اللغة فيها بكرًا ومحتفظة بأسطوريتها. بعض القرابين كانت تهدى أو تنذر للمعابد في جنوب الجزيرة، ولكي يعرفها الناس ولا يتعرضها أحد كانت توضح بوسم أو بلون أو بعلامة.. ورغم أنه لا دين هنا غير الإسلام منذ ألف وأربع مئة سنة إلا أننا هنا بقينا وإلا الآن في بعض القرى نحني (نضع الحناء) على خراف الأضاحي دون أن نعرف لماذا؛ سوى أننا نجمّل الأضاحي. هذه الحناء ليست أكثر من بقايا أسطورة موغلة في القدم تعود إلى الوسم أو العلامة التي توضع على القرابين المنذورة. ما أود أن أقوله هنا أيضًا أن رمزية الدم كمحرض وباعث على الحياة ليس في جنوب الجزيرة فقط.. بل ظل في جميع الأديان والأساطير، وأحيانًا تطلب أن تكون الضحية سوداء لا تخالطها شعرة بيضاء.. وللسواد رمزيته أيضًا وارتباطه بالعالم السفلي.. عالم الأرواح. وكلما مضت الشعوب نحو التحضر قل ارتباطها بالدم والقرابين.. ففي بلاد كبنغلاديش وحتى بعض البلدان الأفريقية مثلًا تجمّل الأضاحي وتلوّن قرون الأبقار وتنصب لها الخيام أمام المنازل وفي يوم النحر تفيض الشوارع بالدماء في مظهر احتفالي يرونه هم مبهجًا.. وفي بلاد أكثر تحضّرًا أصبحت الأضاحي تذبح في المسالخ أو إلكترونيًّا في بلاد بعيدة. (سيد القمني) في كتابه الأسطورة والتراث واستنادًا إلى مراجع عدة يرى أن قرني الخروف أو الثور تحوّرتا مع الزمن إلى دلالة للقرابين، وتحور شكل القرنين ليغدو هلالًا.. كون أن الديانة في جنوب الجزيرة كانت قمرية.. وأن استخدام الهلال كرمز إسلامي جاء متأخّرًا وهو يعزوه إلى هذه الأسطورة، ولا أريد الغوص كثيرًا في التفاصيل هنا كونها شائكة وطويلة. لكن أساطير القمر المرتبطة بالمطر والنماء والكسوف كثيرة.. وتعرفها الجدات وكبار السن في منطقة جازان، وأكثرها ضاع. وعندما كنّا صغارًا، ونحدق في القمر يخيل لنا أننا نرى شجرًا، وبقرة ترعى، وطيورًا محلقة، وهكذا كان يقول لنا الكبار. مثلَ آخر: أسطورة (جدة المطر) (1) التي يعرفها أهالي ساحل تهامة، فعندما كنا نجدها صبيحة المطر ونقوم بكسوتها من ثيابنا ونخاطبها بأن تكسونا في يوم الدينونة، كنا نفعل ذلك (ربما) دلالة رمزية لزمن القرابين وابتغاء لهطول المطر المحرض على الحياة. سأحاول الخروج إلى أساطير أقل جدلًا.. فعندما ذهبت إلى القارة الهندية قبل ثلاثين عامًا رأيت مثلًا أن المرأة عندما تتزوج وعند دخول بيت زوجها يوضع تحت قدميها كمية من الأرز.. تفاؤلًا بالغنى والرزق الطيب.. وكانت المرأة ليلة انتقالها لبيت زوجها عندنا في جازان وربما كل تهامة يوضع تحت قدميها زنبيلًا من الحبوب.. ربما لم يعد هذا موجودًا.. وربما لا يتذكره إلا القليلون؛ لكنه كان.. ورأيت هناك -أعني في القارة الهندية- أيضًا طقوس اللباس.. تكاد تتشابه مع طقوس اللباس هنا في الزواج وفي نقش الحناء ولبس الفل ووضع الزمام في الأنف ووضع ما يسمى (بالحسن) وهو مسحوق أحمر في مفرق الرأس أو شعر الرأس، وهذه الأشياء ما زالت ملاحظة في الثقافتين إلى الآن. وأحب أن أشير هنا ولكم الحق في الاختلاف معي إلى أن القلق المفرط، وربما من الخوف على عقائد الناس محا الكثير من هذه الأساطير أو الممارسات الشعبية وتعامل معها الناس كخرافات وشركيات منعت ثم طمست أو نسيت أو فقدت كونها كانت ثقافة شفاهية فقط. عندما زرت صديقًا في ساحل ماليزيا الشرقي كان يتحسر على طقوس كانت تقوم أثناء حصاد الأرز الموسمي.. طقوس بها رقص وغناء ومشاعل وتعود إلى أزمنة سحيقة؛ إلا أن الالتزام الديني الذي وصل تلك المنطقة أوقفها، وهو يقول ألا أحد يعرفها من أبنائه. مثال آخر حكايات (البدة) التي (تخطف) الضحية.. تميتها ثم تعيدها على شكل كائن آخر.. يوجد لها مقابل في كتاب الموتى في مصر القديمة.. وكذلك أسطورة (إيزيس وأوزوريس) تتطابق مع الحكايات الشعبية لدينا التي تروي إعادة الحياة إلى الميت من خلال عضو واحد في ما يسمى ب(الشراوي) أو (الوليدة)، أو الحكاية الشعبية التي كانت الجدات يروينها لنا قبل النوم. الجعل أو (الجعران).. الذي كنا نجده ونحن نرعى ماشيتنا وعندما كانت تضع أبقارنا (الروث) تتوافد هذه الجعلان من حيث لا ندري.. تقطع جزءًا من الروث وتكوره وتذهب به إلى أعماق الأرض.. وعندما كنا نسأل الكبار لم تفعل الجعران ذلك..؟ كانوا يقولون لنا إنه يجمع مهرًا لبنت عين الشمس.. ولم يكن المسكين يفعل أكثر من أن يدفن بيضه في هذه الكرة لتفقس اليرقات وتجد ما تتغذى عليه وتحتمي به. قدماء المصريين في بلاد النوبة عبدوا هذه (الجعل) أو الجعران، وصنعوا له تماثيل كثيرة، وكانوا يرون في الكرات التي يدحرجها وتفوق وزنه كثيرًا (رمزًا للشمس) لاحظوا الشمس.. ونحن نقول مهرًا (لبنت عين الشمس) لاحظوا معي؟ ورأوا فيه تجسيدًا للإله رع. والذين زاروا المتاحف المصرية شاهدوا تواجد الجعلان المقدس رمز البعث والخلود. مثال آخر فعندما كنا نستذكر دروسنا على أضواء الفوانيس تتواجد في بعض الليالي فراش وحشرات أكثر من المعتاد.. وكان الكبار يقولون لنا إنها دلالة لقرب قدوم المطر.. هذه الحكاية سمعتها من بائع ليلي في جزيرة بالي الإندونيسية عندما قلت له إن الحشرات الليلة تبدو أكثر، قال إنها ستمطر الليلة أو غدا؛ فقد كان يعتبرها دلالة دون أن يعرف لماذا كمثلنا أيضًا.. وقد أثبتت الدراسات أخيرًا أن هذه الحشرات قبل غيرها تستشعر رطوبة الهواء وتغدو أجنحتها الشفافة غير قادرة على حملها للأعالي لأنها تبتل بفعل الرطوبة فتهبط.. وهكذا كانت تأتي على أضواء فوانيسنا.. ويهطل المطر أحيانًا وغدا حضورها دلالة أسطورية على أنها بشائر خير. وحتى قوس قزح والذي ليس أكثر من (منشور) (2) مائي يحلل ضوء الشمس لألوانه السبعة، كنا نرى فيه دلالة على أنه يشتت السحب ويمحو المطر.. مع أنه لا يظهر إلا بعد أن تسطع الشمس؛ إلا أن حضوره ارتبط بانقطاع المطر دون أن نعرف حينها تفسير هذه الأسطورة، أسطورة تشكل هذا القوس الكبير الملون. هناك الكثير الكثير من الأساطير والحكايات.. هذه الأساطير ساعدتنا وساعدت أجدادنا على تفسير العالم وعلى التصالح مع العالم وعلى فهم وجه الحياة.. لم تعد.. إنها تتلاشى، أساطير الجنيات و(البدات) و(الخضر) أو (الخضير) كما نسميه و(السعلاة) أو (السلعية) و(عبلة) و(أم الصبيان).. و(أبو مشعل) وغيرها. أساطير علاج الأمراض المستعصية ك(الخاشي) و(القوبة) و(المستطعن) (والصرع).. أساطير الحيّات والثعابين والجواهر المحروسة بالمردة كلها لم تعد.. ولم تكتب ولم تعرف وحتما اختفت وستختفي. وكلنا يقول ولم لا تكتب؟ ومن يكتبها؟ الأفراد أو المؤسسات؟ أو ليست أكثر من خرافات وشركيات.. وبدع؟ ويكاد يختصر كل تراث وأساطير المنطقة في الأكلات الشعبية وفي جلد الطبل يرقص عليها الناس ويضحكون كما يحدث الآن ثم لا شيء. وأنا لا أدعي هنا أني أسرد حقائق.. لكني أخطّ سطرًا في أول الصفحة وأنتظر البقية أن تأتي. ----------------- (1) جدة المطر عنكوبة حمراء نجدها صباحات المطر (2) المنشور مثلث زجاجي يحلل الضوء لأطيافه السبعة -------------- المراجع: * مغامرة العقل الأولى - فراس السواح * دين الإنسان - فراس السواح * لغز عشتار - فراس السواح * الأساطير بين المعتقدات القديمة والتوراة - علي الشوك * جولة في أقاليم اللغة والأسطورة - علي الشوك * حكايات وأساطير يمنية - علي محمد عبده * فلسفة الأسطورة - الكسي يوسف (ترجمة منذر حلوم) * حكايات شعبية فرغونية - جاستون ماسبيرو (ترجمة فاطمة عبده) * سحر الأساطير- م. ف. البيديل (ترجمة د. حسان إسحاق) * ثلاثة عشر قطة سوداء - يوري دميتريف (ترجمة د.إبراهيم أستنبولي)