ها أنا أعود إلى جدة لأجد خبرا جميلا، حبيب العمر في جدة. تمضي الأيام مسرعة كلمح البصر ولا نلتقي أنا وصديق العمر. كم هي قصيرة حياتنا في هذا العالم.. رسالة قصيرة من خمس كلمات غيرت مجرى الأسبوع: «لنلتقِ يا أبا فراس في مكتبي».. طرت من الفرح! هكذا نحن البشر حالمون برؤية الشخص الغائب.. كنت أنتظره وأنا أستسلم إلى لذة الخدر، وتعوي في دمي ذكريات عن أيام عملنا معا في المستشفى الجامعي وكلية الطب ووزارة الصحة. انزلق إليها وأنا أشف وأخف متحولا إلى روح صافية تحيطني غلالة جميلة مصدرها رجل لامع الذهن صافي النفس.. رجل غسل نفسه من كل أوساخ الدنيا.. قلب طفولي.. مبهور دائما باكتشاف كل ما يفيد المريض.. له قلب بوسعه احتضان الكون برمته.. رجل بإمكانه التحليق والطيران في أشد العواصف زمجرة.. لا يصده سقف ولا يمنعه حاجز.. رجل عشق نشوة تحقيق سر وجوده في الحياة.. لا يحتويه إطار.. ظل إنسانا أكبر من جميع المسميات التي تسبق اسمه.. كان يطلق ابتسامته التي تشبه الريال الفضة في وجه كل مريض. كانت تلك الابتسامة تحمل الأمل في قلوب المرضى.. يصل في موعده مثل مد، وحتى عندما يذهب يشعر المريض أنه ما زال هناك.. كان حضوره قويا في قلوب مرضاه. كل منصب تقلده ترك وراءه نخلة خضراء.. التصقت به أينما حل، فهو رجل متيم بحب عمله. من يعمل معه يظل عسكريا إلى يوم القيامة، وأحببته أبدا لأنه سلس، ناعم المعشر، يفوح بالطيبة كغابة خضراء في الصدر. حضر في موعده! وما الغريب على رجل يقدس الزمن ولا يتأخر قط.. تضبط الثانية عليه. استقبلني فاتحا ذراعيه مرددا: «أنت والغربة علي؟». قالها لي وأخذ يضمني.. أجلسني قباله وطلب لي شرابي المفضل (شاهي بالحليب).. لديه ذاكرة أسطورية بتفاصيل حياة من يحب.. كنت سعيدا برؤيته كمن يرى بحيرة زرقاء بعد عام من الإقامة في صحراء. قلت له: «أنت رجل واحد في مجموعة هؤلاء، طبيب، بروفيسور، عميد، وكيل جامعة، مدير جامعة، وزير، مستشار، سفير وكاتب! نعم كاتب.. فقلمك مكتبة وطنية. إلى متى ستظل الأحداث التي عشتها سجينة الذاكرة؟! المكتبة السعودية تفتقر كثيرا إلى مؤلفات السعوديين الإداريين العظماء، والتي تعبر عن التجارب القيادية الثرية. لديك تجارب تستحق التسجيل، وهذه التجارب ما لم تسجل الآن قد يأتي يوما من يخدر الذاكرة. نحن البشر أبناء عقوق، قد يضيف ما يشاء ويسقط ما يشاء، ويزور الحاضر بالماضي. دع نغمة (فلوت) الماء تفيض بتقريعها الرقيق على حصاة الأنبوب.. ما نفع الماء إن ظل في البئر؟! انشر على العشب وشاحك».. ابتسم بمرارة مرحة، وقال لي: «ستصدر قريبا، وستستهويك! تحدثت بدون سياج يا بوفراس، تحدثت كثيرا عمن اختلف معي، لا مع من اتفق معي، فمن اتفق معي لم ينفعني كثيرا، من اختلف معي كان جوهر إنتاجي». مازحته ضاحكا: «أنا اختلفت معك كثيرا، إذا أنا موجود؟؟»، قال لي: «المصباح لا يتوهج إلا بين السالب والموجب». قلت له: «ومتى ستصدر المذكرات؟». قال لي وابتسامة رضا بريء ودفء على فمه: «قريبا!». لم أقفز في الهواء من صعقة الفرح، بل اغتبطت. فأخيرا ستحتفل المكتبة السعودية بمائدة عامرة بكل ما لذ وطاب. أخيرا سيخرج الشبكشي عن صمته الخشن، وأخيرا سنقرأ قصصا سخية في فن علم القيادة، وسيتحدث الرجل الذي يعتقد البعض أنه وحش، وآخرون أنه ملاك، بعد صمت طويل! بدفء وبساطة ورقة ونعومة وصدق ووضوح ومداعبة ومرارة وألم واستغراق، عن كيف يتعنتر البيروقراطيون.. وكيف تعبس الأيام أحيانا في وجه الجبل.. وكيف تدعوك ضحكات الأمواج البيضاء أحيانا لارتكاب حماقات.. وكيف يحاول البعض تجميد إنسانيتك. في المذكرات مواقف طريفة، وأخرى مثل شظايا القنابل. مذكرات سأنتظرها كغيري بفضول عالم متعطش لعلم أسرار البحار، يكتبها الرجل الذي رغم تغير الأيام وتعاقبها ظل في حياتنا مثل أبطال الأفلام الأسطورية عصيا على الوصف!.