من أعجب العلاقات تلك العلاقة الوجدانية التي حصلت بين (سيف الدولة الحمداني) وإحدى المحظيات التي يقال لها (جيداء)، وهي جارية أهديت له وأفتتن بها، لما تتمتع به من جمال وعذوبة صوت، حتى أن وصفها ورد في (مسالك الأبصار ) بهذا النص : «كانت شبيهة بالغزال في نظر فاتن، إلى سر فيها كامن، تغني فتحرك كل ساكن». ومع ذلك ظلت علاقة سيف الدولة بها بريئة لا يخالطها أي شائبة، لأن الرجل كان جادا في مسلكه ومنشغلا بالحروب، ويبدو لي أن الإعجاب كان من طرفه هو، والحب كان من طرفها هي. وفي بعض الأيام حينما ترهقه الحوادث ويريد أن يرتاح قليلا كان يستدعيها إلى مجلسه لتغني له من خلف الستار ليبعدها عن تلصص عيون الحاضرين، وبين الحين والآخر يرفع الستارة قليلا لينعم برؤيتها، وهي التي تغنت به قائلة: يا طول شوقي إلى الرحيل غدا ويا بلائي منه إذا وفدا أضناني الحب إذا تعرض بي ما قتل الحب هكذا أبدا وفي أحد الأيام استدعاها سيف الدولة وجلست كعادتها وراء الستارة خلف ظهره، وكان الشاعر (المتنبي) حاضرا، وأخذ يلقي قصيدته التي مطلعها: لكل امرئ من دهره ما تعودا وعادات سيف الدولة الطعن في العدا وما أن وصل إلى قوله: تركت السرى خلفي لمن قل ماله وأثقلت أفراسي بنعماك عسجدا وفديت نفسي في هواك محبة ومن وجد الإحسان قيدا تقيدا ويبدو أن البيت الأخير وقع في نفسها موقع السحر، فما كان منها إلا أن ربتت على كتف سيف الدولة وتهمس له طالبة منه أن تغني له هذه الأبيات، فأشار للمتنبي أن يتوقف عن الإلقاء، وصرف من كان في المجلس ما عدى المتنبي، وبدأت هي تعزف وتغني إلى درجة أن المتنبي من شدة طربه صاح قائلا : والله يا مولاي لم أدر أن المجلس من الممكن أن يرقص بنا، حتى شاهدته في هذه الساعة وقد أصابه ما يشبه الجنون. ويقال أن شعر الغزل القليل الذي أبدعه المتنبي فيما بعد كان بها. ومن أغانيها بسيف الدولة: منا الوصال ومنكم الهجر حتى يفرق بيننا الدهر والله ما أسلوكم أبدا مالا ح نجم أو بدَا فجر وكذلك: هيجت بالقول الذي قلته داء بقلبي ما يزال كمينا قد أينعت ثمراته في طينها وسقين من ماء الهوى فروينا كذب الذين تقولوا يا سيدي إن القلوب إذا هوين هو ينا. ذهب سيف الدولة، وذهبت جيداء، وذهب المتنبي، ولكنني على يقين أنهم عاشوا حياتهم بالطول والعرض، ويا حسرة علينا. [email protected]