أثار الاتجاه نحو سن قانون للأحوال الشخصية بالمملكة جدلا نظريا واسعا. لكن التساؤل الذي يفرض نفسه هو مدى حاجة مجتمعنا في الوقت الراهن إلى مثل هذا القانون، في ضوء التغيرات التي يشهدها المجتمع السعودي كجزء من العالم الحديث يتأثر به ويؤثر فيه. والأسرة السعودية اليوم أصبحت تواجه تأثيرا متزايدا عبر وسائل الاتصال الإعلام، والتي نلمس تأثيرها في حياتنا اليومية. ولذا كان علينا أن نسعى إلى توضيح رؤيتنا المؤسسة على أرضية واقعية وعملية. وسوف نتناول ذلك في نقطتين: النقطة الأولى: التجارب السابقة لبعض الدول: إن العلم ليس مجرد نصوص، وإنما فهم لهذه النصوص، فالنصوص لا تسعى وحدها للتحرك في إطارها الواقعي متفاعلة اجتماعيا وثقافيا... إلخ، وإنما تحرك عبر المفاهيم التي تحدد موقف المؤسسات منها، وهذه الأخيرة هي المنوط بها نقل النصوص من تجريدها اللغوي إلى تفاعلها وتأثيرها على المجتمع. والعلم هنا هو تراكمات معرفية نستفيد منها لنفهم الحاضر عبر الماضي. ورأيت في هذه النقطة أن ألتمس هدى مما أورده الشيخ الجليل علي حسب الله حول التجربة المصرية في شأن الأحوال الشخصية، وذلك في مقدمته التاريخية بمؤلفه علم الميراث، وقد نقل لنا الشيخ هذه التجربة الطويلة نقلا رائعا ومحايدا، وسوف نفاجأ بأن ما حدث قبل قرون على وجه العموم، وقبل قرن في مصر على وجه الخصوص، هو ما يحدث اليوم، حيث بين الشيخ أن ما أحدثه اتساع الدولة الإسلامية من اختلاف للقضاة والفتوى في الأحكام تبعا لاختلافهم في معرفة النصوص وفهمها، قد تفاقم في العصر العباسي، حتى أحل لبعض الناس ما حرم على الآخرين؛ لا في بلدين مختلفين فحسب، بل في ناحيتين من نواحي البلد الواحد. وقد كتب ابن المقفع في رسالة الصحابة إلى أبي جعفر المنصور، يقول: «ومما ينظر فيه أمير المؤمنين....، اختلاف هذه الأحكام المتناقضة التي قد بلغ اختلافها أمرا عظيما في الدماء والفروج والأموال، فيستحل الدم والفرج بالحيرة وهما يحرمان بالكوفة...، فلو رأى أمير المؤمنين أن يأمر بهذه الأقضية فترفع إليه في كتاب ومعها ما يحتج به كل قوم من سنة أو قياس» . واستطرد ابن المقفع ذاكرا أن هذا الاختلاف قد أهم ولاة الأمور منذ أبي جعفر المنصور، مرورا بالرشيد.. وغيرهم، حتى ظهر التعصب والتقليد، وغير ذلك من مساوئ. وأورد الشيخ الجليل علي حسب الله ما حدث إبان التقنين المصري للأحوال الشخصية، حيث قال: «وعرض القانون للنقد فضاقت به صدور الذين يكرهون أن يدعوا ما وجدوا عليه آباءهم من قبل.. فثارت ثائرة طائفة كبيرة من رجال الدين، حتى بلغ الأمر أخيرا مبلغه بصدور القانون، ومع ذلك وحتى حين بدأت اللجنة الموكل لها وضع القانون في أعمالها، ظهر الخلاف حول ضرورة النص على الأحكام قطعية الثبوت والدلالة، ثم انتهى الخلاف حين انتصر الرأي الذي قال بأن (الأحكام المأخوذة من نصوص قطعية كالخاصة بأصحاب الفروض والعصبات لا يجوز أن نتعرض لها وإلا كان معنى ذلك أننا نريد تعديل أحكامها ولا نظن أن فينا من يريد ذلك، لأن هذه الأحكام مأخوذة من كتاب الله وأمرها متفق عليه ولا عمل للجنة فيها إلا صياغتها)». وإذا استعرضنا ما ذكره شيخنا الجليل؛ نستطيع أن نستنتج الآتي: أولا: أن المشاكل التي يثيرها عدم وجود تنظيم للمسائل محل الخلاف كثيرة، منها اختلاف الأحكام وتحول القضاة إلى مفتين، وعدم المساواة، وهذا مما يجب تطهير القضاء منه، بل هو مدعاة لسد الذرائع عبر توحيد الأحكام التي ما دامت لا تختلف مع الشريعة الإسلامية، فلا تحل حراما ولا تحرم حلالا، فلا مشكلة من تقنينه لتتوحد. ثانيا: أن الجدل الذي ثار في المملكة هو أمر طبيعي، وقد حدث عبر الزمان في الأمم السابقة والمعاصرة التي سبقتنا فيه، ومرور الزمن قد أثبت وجهة النظر العملية المؤيدة لتوحيد الأحكام. النقطة الثانية: اختلاف الفقهاء، أثار الاختلاف حول المسائل في الفقه الإسلامي جدلا واسعا، تعرض له الإمام الطبري والمروزي وغيرهما. ومما سبق يمكننا أن نوضح لماذا نقف مع هذا القانون، بل ندعو إلى النص على بعض القواعد الإجرائية؛ مراعاة لخصوصية قضايا الأحوال الشخصية، حيث أنها بحاجة إلى ضبط بيروقراطية العدالة، ولا سيما مع ما نلمسه من تأخر الفصل في الدعاوى وما يحدثه ذلك من أضرار نفسية واجتماعية على أطراف الدعوى والنساء على وجه الخصوص، فهن اللائي أوصانا الرسول عليه الصلاة والسلام بهن، فالعدالة البطيئة ظلم سريع. أستاذ القانون بجامعة الطائف