كان وما زال معلم الصف الأول مطبوعا في ذاكرتنا مهما امتد بها العمر وتوارت عليها الوجوه والملامح، فلا نزال نتذكر ملامحه وصوته، بل ورائحته، ولا تزال هذه الذاكرة تحمل لهذا المعلم جانبا من اثنين؛ فإما حنين مغلف بالعرفان، وإما بقع داكنة من القسوة والخوف لا يزال يقطننا إلى يومنا هذا. عندما ألج حجرة الصف الأول، وأتأمل تلك الوجوه الصغيرة والأعين اللامعة وأقلام الرصاص التي أنهكتها المبراة، ودفاترهم الملونة وضحكاتهم الحلوة وحروفهم الكبيرة، لا أملك إلا أن أعود بذاكرتي إلى فصلي الصغير في قريتي البعيدة وأتذكر معلمي الذي أحببت وما زلت أدعو له بالخير كلما مر بذاكرتي، فقد كان نعم الأب الذي علمنا بحب، وعاقبنا بحب، ولم أتذكر أنني خفت عقابه يوما بقدر خوفي من عتابه أو أن يشيح بوجهه عني. معلم الصف الأول شئنا أم أبينا سيبقى مهندس النجاح للعملية التعليمية والتربوية برمتها، والرقم الأصعب في الميدان التربوي، فهو الذي يضع لبنة أولى لبناء كامل فإن صلحت هذه اللبنة صلح البناء كله، وإن شابها نقص أو ضعف فسنجني بناء متهالكا لن تجدي معه محاولات الترميم. من المؤسف أن نجد في الميدان التربوي من لا يدرك هذه الحقيقة، فيسند لهذه المرحلة المهمة معلما ينقصه الكثير ليكون معلما للصف الأول الابتدائي، فلهذا المعلم مقومات أساسية لا يمكن التنازل عنها، ولن يصلح الحال بالتغاضي عن جلها أو كلها، فمن واقع الميدان التربوي الذي نعيشه كل يوم نجد من معلمي الصف الأول من يتفوق على ذاته؛ فهو دائم العطاء، ذكي، متجدد، خرج من دائرة التلقين إلى فضاء الإبداع والإبهار، يغلف كل هذا بحب صادق فيستميل الصغير ويكسب ثقته قبل وده، نماذج أراها كل يوم تمنحني الكثير من التفاؤل بغد مشرق، ومستقبل واعد. لم يعد مقبولا اليوم من المعلم أن يرص الصغار أمامه ليهطل على رؤوسهم بسيل من المعلومات؛ فالمعرفة لم تعد حكرا على المعلم، بل إن كثيرا من الصغار قد تجاوز خط المعرفة الذي يقف عند نهايته المعلم؛ فالصغار يفكرون، ويحللون، يتذوقون، ويعبرون، وسيبدعون إن منحناهم الأفق الذي يستحقون. من هنا تبقى الحاجة ملحة لتأهيل معلم صف أول تأهيلا خاصا، مدركا لأهمية هذه المرحلة، مبدعا في تنمية جوانب التفكير والإبداع لدى طلابه، شغوفا لقطف ثمرة عطائه، وستبقى علامات الاستفهام معلقة على أبواب تلك الصفوف التي لم يمنح ساكنوها من الصغار فرصة عادلة لأساس متين، قوامه معلم ناجح، وأب رحيم. إن من أيسر حقوق معلم الصف الأول الابتدائي ألا يقارن بغيره من المعلمين؛ فالحق أن تبذل له كل أسباب الدعم والتكريم، وأن يمنح ما يستحقه من المزيد من الحوافز التي يستحق، حينها سنتغنى بمخرجات التعليم في وطننا الغالي، وننعم بجيل واع قادر على تجاوز كل ما قد يعوق تقدمه. عبدالله أحمد آل متعب الغامدي