الإجابة على هذين السؤالين المتعلقين بعالم الفيروسات الغامض وغيرهما كثيرا ما تبدو متناقضة لا تشفي الغليل حتى بالنسبة للمختصين أنفسهم، فأغلبهم يجيب بأن الفيروس أقرب ما يكون إلى الجماد حينما يكون خارج الخلية الحية التي لا يستطيع التكاثر إلا بداخلها حيث إن كثيرا من الفيروسات يتمتع بتركيب بسيط ولا يملك أيا من العمليات المعقدة التي تميز المخلوقات المكونة من خلايا حية مثل هضم الغذاء وإنتاج مركبات الطاقة وأجهزة صناعة البروتينات والأحماض النووية والدهون والإنزيمات المختلفة وإفراز المخلفات. على عكس ذلك، ما إن يدخل الفيروس داخل الخلية المناسبة له أو حتى منذ أن يلتحم بها إلا وتدب فيه الحياة فيبدأ سلسلة من العمليات التي يسيطر بها على هذه الخلية المضيفة ويستغلها أيما استغلال لصنع نسخ كثيرة من الفيروسات الوليدة التي يؤدي تكوينها إلى الفتك بالخلية والانتشار إلى خلايا أخرى. بعض العلماء يعتبرون الكائن حيا إذا كانت لديه القدرة على التكاثر والتنوع وتوريث صفاته، ووفقا لذلك يعتبرون الفيروس كائنا حيا. أحد العلماء وصف الفيروسات بأنها على الخط الفاصل بين المخلوق الحي والجماد. بالنسبة للعامة توحي كلمة فيروس بأوبئة شرسة مثل الجدري والحصبة وشلل الأطفال والانفلونزا والإيدز، ومؤخرا، الكورونا وكثير من الأوبئة التي تصيب الحيوان والنبات. هذه الأوبئة تقودنا لا شعوريا إلى اعتبار الفيروس كائنا حيا شديد الفتك والدمار قادرا على الانتقال بين ملايين البشر أو المخلوقات الأخرى. على عكس ذلك يستعجب العلماء من بساطة تركيب كثير من الفيروسات، مثل إيكارد ويمر الذي تمكن في عام 2002م من صناعة فيروس شلل الأطفال في الأنبوب من مكوناته البسيطة محصيا بدقة كل ذرة من ذراته. تصرف هذا الفيروس المصنع كيميائيا عند زراعته على خلايا حية مناسبة تماما كما يتصرف فيروس الشلل الطبيعي الذي يحاول العالم جاهدا احتوائه والقضاء عليه. يقول بريمر: «إن كتابة الصيغة الذرية لفيروس الشلل تجعله يبدو تماما كمادة كيميائية، ولذا فإن فيروس الشلل خارج الخلية يبدو بالنسبة لي ميتا ككرة البنج بونج أما داخل الخلية فهو يتمتع بكثير من خواص المخلوقات الحية». ومهما كان الأمر بالنسبة لحيوية الفيروسات فإن ذلك لم يشفع لها بأن تمنح موقعا على شجرة الحياة التي تضم كافة المخلوقات المكونة من خلايا حية مثل البكتيريا والفطريات وكل أنواع الحيوان والنبات. يبقى السؤال المحير: كيف تدب الحياة في مادة كيميائية بسيطة جامدة؟ ولا نملك هنا إلا الوقوف بإعجاب أمام السر الذي وضعه الخالق عز وجل في هذه المخلوقات الضئيلة. السؤال التالي الأكثر تعقيدا هو: من أين جاءت الفيروسات؟ مرة أخرى قدم بعض العلماء إجابة مبسطة مضمونها أن نشأة الفيروسات جاءت بالضرورة بعد تكوين الخلايا لكون الفيروسات تعتمد في تكاثرها على الخلايا، ولذا لا يمكن أن تنشأ قبلها بل من الأرجح أن تكون مشتقة منها. المفاجأة أنه ظهرت في السنوات الأخيرة معلومات تتعارض مع هذا التعليل المبسط لنشأة الفيروسات. بداية تبين أن الفيروسات هي أكثر المخلوقات وجودا على الكرة الأرضية سواء من ناحية العدد أو الكتلة بل إنها تفوق المخلوقات التي تليها في ذلك، وهي البكتيريا، بعشرة أضعاف. تبين أيضا أن العلاقة بين فصائل الفيروسات المتباعدة موغلة في القدم مما يرجح أن بعض الفيروسات نشأ عند مرحلة التكوين الأولى للخلايا البدائية قبل حوالى أربعة مليارات سنة. كما تبين أن الفيروسات تحمل الكثير من المادة الوراثية مما ليس موجودا في الخلايا الحية حاليا وأنها منذ نشأة الخلية البدائية لعبت دورا اساسيا في نقل المادة الوراثية بين الخلايا مما ساهم بشكل كبير في تطور الخلايا وظهور الأنواع المختلفة. مؤخرا تم اكتشاف فيروسات عملاقة تحوي من المواد الوراثية أكثر مما تحمله بعض الخلايا الصغيرة. كل ذلك جعل بعض العلماء يطالبون بإعطاء الفيروسات موقعا أساسيا على شجرة الحياة بالقرب من أصلها. بل إن الدور الذي لعبته الفيروسات في نقل المادة الوراثية أفقيا بين المخلوقات جعل بعض العلماء يقترحون استبدال مصطلح «شجرة الحياة» ب«شبكة الحياة». فوق ذلك تبين أن علاقة الفيروسات مع الخلايا ليست دائما علاقة فتك ودمار، بل إن كثيرا من الفيروسات يمكنها التواجد داخل الخلايا وفق علاقة توافقية مستمرة ذات فوائد متعددة للخلية أو الحيوان بل حتى الإنسان كما في حالة غشاء المشيمة الناتج من منتج لفيروس قابع في الخلية. كل ذلك حدا ببعض العلماء إلى إصدار كتاب بعنوان: «الفيروسات عوامل ضرورية للحياة» يحاول إلقاء الضوء على مثل هذه المواضيع الغامضة. ويبقى فوق كل ذي علم عليم.