حتى سنوات قريبة كانت الفيروسات تعتبر أصغر الكائنات الدقيقة على الإطلاق فهي لا ترى بالمجهر العادي مثل البكتيريا والطفيليات والفطريات بل تتطلب رؤيتها استخدام المجهر الإلكتروني تحت تكبير يصل إلى 20-40 ألف مرة. كما كانت الفيروسات، التي يختلف تركيبها عن الخلايا التي تتكون منها المكروبات الأخرى، تتميز بأنها، لصغرها، تستطيع المرور عبر مرشحات (فلاتر) ذات ثقوب دقيقة تمنع مرور البكتيريا وغيرها من المكروبات الخلوية. على الرغم من أن هاتين الخاصتين ما زالتا تنطبقان على أغلب الفيروسات المعروفة مثل فيروسات شلل الأطفال والحصبة والإنفلونزا والإيدز، إلا أنهما لم تعودا صحيحتين بالنسبة لكل الفيروسات بعد اكتشاف فيروس ميمي (Mimivirus) عام 2003م بجامعة البحر المتوسط بمدينة مرسيليا في فرنسا. كان اكتشاف هذا الفيروس صدفة مدهشة لم تبدأ حكايتها في مرسيليا وإنما بدأت في مدينة برادفورد في بريطانيا حيث كان أحد العلماء يبحث عن سبب عدوى تنفسية انتشرت بين مرضى المستشفى الذي كان يعمل فيه. فحص ذلك العالم عينات من الماء أخذها من وحدات التكييف وشاهد فيها، بالفحص المجهري البسيط، ما يشبه البكتيريا المكورة، أطلق عليها اسم «مكورات برادفورد»، وقد كانت موجودة داخل خلايا الأميبا وهي نوع من الكائنات وحيدة الخلية التي تنمو في الطبيعة في مختلف البيئات المائية. أرسل العالم البريطاني عينات إلى مختبر جامعة مرسيليا الذي تميز باحثوه في تصنيف أنواع البكتيريا التي تنمو داخل الأميبا حيث بذل العلماء هناك جهدهم لتصنيف «البكتيريا» الجديدة المفترضة بالطرق المتعارف عليها ولكنهم فشلوا مرة تلو الأخرى. بعد عدة محاولات فاشلة خطر ببالهم أن يفحصوا هذه الكائنات تحت المجهر الإلكتروني، ولشد ما كانت دهشتهم عندما رأوا أن ما كان يظهر مثل البكتيريا المكورة تحت المجهر العادي ظهر بشكل مكعب تتميز به الفيروسات وحدها من بين المكروبات الأخرى مما جعلهم يستنتجون، بعد تردد بالغ، أن مكورات برادفورد ليست بكتيريا على الإطلاق وإنما هي فيروس ضخم، أطلقوا عليه اسم فيروس «ميمي» وهو اسم مشتق من كلمة «يحاكي» نظرا لمحاكاته البكتيريا في حجمها الكبير مقارنة بالفيروسات المعروفة حتى ذلك الحين. لم يكن من السهل على فريق البحث الفرنسي نشر اكتشافه المخالف لكثير مما هو متعارف عليه عن الفيروسات، ولكن المثابرة على متابعة الاكتشاف كما يحدث مع كثير من الاكتشافات الجديدة، فتحت مجالا مثيرا وواسعا هو مجال الفيروسات الضخمة (Megaviruses). لم تمض فترة قصيرة حتى تم اكتشاف فيروس ضخم آخر أطلق عليه اسم فيروس «ماما»، وثالث أطلق عليه اسم فيروس «ميجا» وقد تبين أن هذه الفيروسات الثلاثة وغيرها من الفيروسات الضخمة تحمل عددا كبيرا من العوامل الوراثية (الجينات) تقارب أو تتجاوز الألف جين وهو عدد يفوق بأضعاف المرات العدد الموجود في الفيروسات المعروفة سابقا بل ويتجاوز حتى عدد الجينات الموجود في كثير من البكتيريا الصغيرة وهو حدث يسجل لأول مرة. مع ذلك فما زالت هذه الفيروسات الضخمة تشبه الفيروسات الأخرى في شكلها وتركيبها واعتمادها في تكاثرها على الخلايا الحية فهي لا تستطيع أن تتكاثر خارج هذه الخلايا. وكبقية الفيروسات فإن تكاثر الفيروسات الضخمة يتم بتفكيك لبناتها ثم بتجميع المكونات الجديدة التي تصنع في الخلية التي يتكاثر فيها الفيروس مثلما يتم تجميع السيارات. وقد أدت دراسة مكونات الفيروسات الضخمة إلى طرح نظريات جديدة عن نشأة الفيروسات وأصلها، حيث ترجح إحدى هذه النظريات أن نشوء الفيروسات كان منذ ظهور الحياة على الأرض قبل حوالى 4 مليار عام بالتزامن مع ظهور الخلايا الأولى. وقد عضد اكتشاف هذه الفيروسات دعوة بعض العلماء اعتبار الفيروسات فرعا من الفروع الرئيسة لشجرة الحياة بعد أن كانت تعتبر مجموعة جزيئات طفيلية هامدة لا تظهر عليها خواص الحياة إلا عند تكاثرها داخل الخلايا. من حسن الحظ أن خطر الفيروسات لا يتوقف على حجمها وإلا لشكلت الفيروسات الضخمة تهديدا كبيرا للبشرية. ورغم أن هناك دراسات ترجح استطاعة فيروس ميمي أن يتسبب في عدوى الجهاز التنفسي في الإنسان إلا أن مدى ارتباط هذا الفيروس بالمرض لدى البشر ما زال يحتاج إلى التأكيد والدراسة. وأخيرا لقد أثبت اكتشاف فيروس ميمي وغيره من الفيروسات الضخمة أن عالم الفيروسات ما زال محملا بالعديد من الأسرار والمفاجآت. للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 133 مسافة ثم الرسالة