لقد استفاد الملك عبدالعزيز، وهذا سر شرعيته السياسية والتاريخية، من تناقضات النظام الدولي الذي انشغل بحروب كونية طاحنة لم يشهد التاريخ لها مثيلا، شملت النظام الدولي المعروف حينها، استهلكت معظم النصف الأول من القرن العشرين، لبناء أول كيان وحدوي في العالم العربي على أسس عروبية، إلا أنه لم يتنكر لتراث وثقافة وحضارة العرب الإسلامية، وهذا أهم اختلاف بين مشروع الملك عبدالعزيز العروبي الوحدي النهضوي، وذلك الذي صاحب قيام الدولة القومية الحديثة في أوربا. ما ساعد على نجاح مشروع الملك عبدالعزيز الحداثي النهضوي، أن حماسه لمشروعه هذا، لم يجعله يتجاهل واقع النظام الدولي حوله، بل، على العكس من ذلك، نراه يحترم نظام توازن القوى الذي كان سائدا.. ويستشرف، بحس سياسي فطري، نتائج صراع القوى وما يترتب عليه من تراتبية مختلفة للقوى الدولية، عقب كل صراع حاسم بينها تنتج عنه قوى مهيمنة جديدة في النظام الدولي.. مع توفر حساسية مفرطة لديه للدخول في صراع أو مواجهة مع أية قوى دولية أو الظهور بمظهر من يهدد مصالحها. إن تعامل الملك عبدالعزيز مع الإنجليز ونجاحه في تحييد خطر وجودهم في المنطقة على مشروعه الوحدوي.. ولاحقا عندما أدار باقتدار استبدال الإنجليز بالأمريكان لاكتشاف وتنمية ثروة المملكة النفطية الهائلة، إنما كان يستشرف بحس استراتيجي فطري بوصلة توجه النظام الدولي بعد الحرب الكونية الثانية بأفول نفوذ ومكانة قوى دولية تقليدية وتصدر قوى جديدة لمسرح السياسة الدولية. الملك عبدالعزيز، كان بحق، رجل الدولة الفذ الذي استشرف حركة التاريخ وحركتها السرمدية تطوى أمام عينيه ليستشرف مآلها اللحظي القريب وهو يتهادى في الأفق، ليعمل على بناء كيان سياسي حداثي نهضوي يتلاءم مع حكمة حركة التاريخ حينها حيث استلهم آخر لحظات التاريخ القديم في بناء الدول على حق الفتح، الذي لم يتسن لأحد غيره في العالم بعد ذلك، وفشل فيه قادة عظام قبله بقرن من الزمان، من أمثال نابليون بونابرات، وفي عصره أيضا. عبقرية الملك عبدالعزيز هنا أنه استخدم حق الفتح، ربما آخر مرة في التاريخ الحديث، من أجل قيام دولته القومية الحديثة، بينما أولئك الفاتحون فشل مشروعهم لأنه كان توسعيا يمضي عكس مسيرة حركة التاريخ نحو بناء الدولة القومية الحديثة. كما أن الملك عبدالعزيز، وهذا ما جعل مشروعه الوحدوي يحمل إمكانات النجاح، منذ البداية، لم يكن من الناحية الاستراتيجية توسعيا. لم يكن يطمح في بناء امبراطورية أممية. كان يعي تماما العالم حينها، ليس عالم الأمم بل عالم الدول. لم يكن يطمح أن يكون خليفة للمسلمين، وهو يرى نظام الخلافة ينهار أمام عينيه في الآستانة، بل كان عندما تأتيه الوفود لمبايعته إماما أو خليفة للمسلمين، كان بحس استراتيجي فطري يرفض ذلك ! ثبت تاريخيا أن الملك عبدالعزيز كان في رؤيته الواقعية لمجال نفوذه وامتداد حكم دولته أبعد نظرا من كثير من زعماء عرب عاصروه سواء الشريف حسين أو الملك فؤاد، ومن حركات إسلامية طمعت في إرث الخلافة الإسلامية، مثل الحزب الإسلامي في الشام والإخوان المسلمين في مصر. كان دائما يقول كل ما أطمح إليه استعادة مملكة آبائي وأجدادي قاصدا إرث الدولة السعودية الأولى (1744 1818) والثانية (1824 1891). قد لا تكون صدفة تاريخية هنا أن يستلهم الملك عبدالعزيز حركة التاريخ ويعي أن مشروعه الوحدوي في شبه الجزيرة العربية حتمي لأنه كان يحاكي حركة التاريخ. فالدولة السعودية الأولى قامت قبل قرن من الزمان من قيام مشاريع وحدوية مماثلة في أوربا، كما رأينا في نموذجي ألمانيا وإيطاليا، ولولا التدخل الأجنبي الذي ساهم في سقوط الدولة السعودية الأولى والثانية، لكانت التجربة الوحدوية في شبه الجزيرة العربية تسبق مثيلاتها في أوربا الحديثة، بما يقرب من قرن من الزمان. الملك عبدالعزيز سيخلده التاريخ بأنه أول وأهم زعيم عربي أقام كيانا عروبيا وحدويا متسقا مع روح العصر وحركته يتمتع بمقومات الاستقرار والتطور ويمتلك مواصفات الدولة القومية الحديثة. ترى ما هي أهم مصادر التحديات التي تواجهها المملكة العربية السعودية. هذا ما سوف نتناوله في الحلقة القادمة من هذه العجالة.