فوجئ عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه بما عهد به سليمان بن عبد الملك بتوليته الخلافة من بعده فخطب في الناس قائلاً: أيها الناس: إني قد ابتليت بهذا الأمر عن غير رأي كان مني فيه، ولا طلبة له، ولا مشورة من المسلمين، وإني قد خلعت ما في أعناقكم من بيعتي فاختاروا لأنفسكم. فصاح الناس صيحة واحدة: قد اخترناك يا أمير المؤمنين، ورضينا بك، فل أمرنا باليمن والبركة. فلما رأى الأصوات قد هدأت، ورضي به الناس جميعاً، حمد الله، وأثنى عليه، وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أوصيكم بتقوى الله فإن تقوى الله خلف من كل شيء، وليس من تقوى الله عز وجل خلف. واعملوا لآخرتكم، فإنه من عمل لآخرته كفاه الله تعالى أمر دنياه، وأصلحوا سرائركم يصلح الله الكريم علانيتكم، وأكثروا ذكر الموت، وأحسنوا الاستعداد قبل أن ينزل بكم، فإنه هادم اللذات، وإن من لا يذكر من آبائه – فيما بينه وبين آدم عليه السلام – أباً حياً، لمعرق له في الموت. وإن هذه الأمة لم تختلف في ربها عز وجل، ولا في نبيها صلى الله عليه وسلم، ولا في كتابها، وإنما اختلفوا في الدينار والدرهم، وإني والله لا أعطي أحداً باطلاً، ولا أمنع أحداً حقاً. ثم رفع صوته حتى أسمع الناس فقال: يا أيها الناس من أطاع الله وجبت طاعته، ومن عصى الله فلا طاعة له. أطيعوني ما أطعت الله، فإذا عصيت الله، فلا طاعة لي عليكم. وكان مما قاله: أما بعد، فإنه ليس بعد نبيكم نبي، ولا بعد الكتاب الذي أنزل عليه كتاب، ألا إن ما أحل الله حلال إلى يوم القيامة، وما حرم الله حرام إلى يوم القيامة، ألا إني لست بقاض ولكني منفذ، ألا إني لست بمبتدع ولكني متبع، ألا إنه ليس لأحد أن يطاع في معصية الله، ألا إني لست بخيركم، ولكني رجل منكم، غير أن الله جعلني أثقلكم حملاً. وقال على الملأ: وإن من حولكم من الأمصار والمدن إن أطاعوا كما أطعتم فأنا واليكم، وإن هم أبوا، فلست لكم بوال)). ثم نزل . ملحوظة : فات علي أن أذكر الأسبوع الماضي أن المدينةالمنورة تهللت بمن فيها بمقدم عمر بن عبد العزيز، فقد كانت سيرته تسبقه كالعبير الفواح، فهو قد عاش في المدينة زمناً طويلاً وأخذ عن أعيانها العلم والورع والتقوى حتى ذاع صيته وطار ذكره الجميل بين الناس. ولكأنما القدر الحكيم أن يجعل من إمارة عمر للحجاز تجربة للمهمة الجليلة العظيمة حينما يصبح خليفة المسلمين وحاكم دولتهم الأمين من أقصاها إلى أقصاها. وقد ورد ذلك في كتاب الأستاذ عبد الستار الشيخ عن عمر بن عبد العزيز الذي استقينا منه الأسبوع الماضي مجمل العمود عن عمر بن عبد العزيز، وهذا ما وجب التنويه عنه.