أيام رمضان المباركة تداعي الصورة الخيرة.. هو رجل استثنائي، وقد مر بالتاريخ فأوجز وأبدع، وصنع تحولات كبرى وعدل مسار تاريخ كامل، في سنتين فقط. فقط لأنه قهر أطماع النفس الأكول.. وتطلع لأن يكون إنساناً سماوياً.. هو الخليفة الراشد الخامس عمر بن عبدالعزيز (تولى الخلافة عام 99 ه ومات في رجب سنة 101ه)، صارع القوة والسلطان والأبهة، وانتصر. مرة وقف على راهب فقال له: عظني، فقال له: عليك بقول الشاعر: تجرد من الدنيا فإنك إنما خرجت إلى الدنيا وأنت مجرد وكان يعجبه هذا البيت ويكرره وعمل به حق العمل. قالوا: ودخل على امرأته يوما فسألها أن تقرضه درهما كي يشتري عنبا، فلم يجد عندها شيئا، فقالت له: أنت أمير المؤمنين وليس في خزانتك ما تشتري به عنبا ؟ فقال: هذا أيسر من معالجة الأغلال والانكال غدا في نار جهنم. فاطمة بنت عبدالملك بن مروان زوجة عمر بن عبدالعزيز اجتمعت لها صفة لم تجتمع لغيرها من النساء، هي بنت خليفة حفيدة خليفة أخت خلفاء زوجة خليفة، واختارت العيش في فقر مع الخليفة الزاهد، تقول: يكون معي في الفراش فيذكر الشيء من أمر الآخرة فينتفض كما ينتفض العصفور في الماء، ويجلس يبكي، فأطرح عليه اللحاف رحمة له، «يا ليت كان بيننا وبين الخلافة بعد المشرقين، فوالله ما رأينا سرورا منذ دخلنا فيها». وقالت فاطمة: دخلت يوما عليه وهو جالس في مصلاه واضعا خده على يده ودموعه تسيل على خديه، فقلت: مالك ؟ فقال: ويحك يا فاطمة، قد وليت من أمر هذه الامة ما وليت، فتفكرت في الفقير الجائع، والمريض الضائع، والعاري المجهود، واليتيم المكسور، والارملة الوحيدة والمظلوم المقهور وأشباههم في أقطار الارض وأطراف البلاد، فعلمت أن ربي عز وجل سيسألني عنهم يوم القيامة، وأن خصمي دونهم محمد صلى الله عليه وسلم، فخشيت أن لا يثبت لي حجة عند خصومته. وبعد أن بويع بالخلافة، انقلب وهو مغتم مهموم، فقال له مولاه: مالك هكذا مغتما مهموما وليس هذا بوقت هذا ؟ فقال: ويحك ومالي لا أغتم وليس أحد من أهل المشارق والمغارب من هذه الأمة إلا وهو يطالبني بحقه أن أؤديه إليه، كتب إلي في ذلك أو لم يكتب، طلبه مني أو لم يطلب. وخطب الخليفة، فقال وقد خنقته العبرة: أيها الناس أصلحوا آخرتكم يصلح الله دنياكم، وأصلحوا أسراركم يصلح لكم علانيتكم، والله إن عبدا ليس بينه وبين آدم أب إلا قد مات، إنه لمعرق له في الموت. وخطب يوماً: وإني لست بخير من أحد منكم، ولكنني أثقلكم حملا، ألا لا طاعة لمخلوق في معصية الله، ألا هل أسمعت؟ وفي خطبة أخرى قال: ألا ترون أنكم في أسلاب الهالكين، وسيكون من بعدكم للباقين (..) ثم إنكم في كل يوم تشيعون غاديا ورائحا إلى الله لا يرجع، قد قضى نحبه حتى تغيبوه في صدع من الارض، في بطن صدع غير موسد ولا ممهد، قد فارق الأحباب، وواجه التراب والحساب، فهو مرتهن بعمله، غني عما ترك، فقير لما قدم، فاتقوا الله قبل القضاء. وكلمه رجل يوما حتى أغضبه فهم به عمر ثم أمسك نفسه، ثم قال للرجل: أردت أن يستفزني الشيطان بعزة السلطان فأنال منك ما تناله مني غدا ؟ قم عافاك الله لا حاجة لنا في مقاولتك. وذكر الصولي: أن عمر كتب إلى بعض عماله: عليك بتقوى الله فإنها هي التي لا يقبل غيرها ولا يرحم إلا أهلها، ولا يثاب إلا عليها، وإن الواعظين بها كثير، والعاملين بها قليل. كان عمر بن عبدالعزيز يحكم أكثر من نصف العالم المعروف آنذاك. ولكنه زهد بكل ذلك وأراد جوائز الله. قال مالك بن دينار (الزاهد): يقولون مالك زاهد، أي زهد عندي؟ إنما الزاهد عمر بن عبدالعزيز، أتته الدنيا فاغرة فاها فتركها جملة. *وتر يا أيها العمر الوضاء.. رضى الله عنك إلى أن ترضى يا خليفة العدل.. نور الله قبرك، بدعاء الصالحين.. ولا يحرمنا الله صحبتك في دار الخلود الباقية.. [email protected]