يسجل حضورا متواضعا هنا كل أسبوع أبعد ما يكون عن الصورة النمطية الضيقة الشائعة عنه.. التي ربما يصدقها هو عن نفسه أحيانا...! *** لم يكن بحاجة يوما لأحد يشرح له ماهية النور.. فلطالما كانت روحه تفيض ضياء ساطعا ينير له بصيرته، وهو ذاك المواطن الفاقد للبصر منذ نعومة أظفاره. عائلته وجيرته كانوا مشاعل ضي تحتضن محيط تحركه بكل ما تحمله أصواتهم من نغمات إنسانية صادقة، وبكل ما يبلغ مشمه من عبق لهم يشبه رائحة الأرض. وبكل ما ألهمته أحضانهم من رعاية وحنان صادقين. كان من أوائل المبتعثين للخارج لتلقي الدراسات العليا في تخصص تربوي جليل، ليعود وهو محمل بالمؤهلات التي يستطيع أن يخدم بها قضية نبيلة تمس وضعه بشكل خاص ولا شك، لكنها تتمحور حول فلسفة القدرة على العطاء ورد الجميل لمحيطه. عمله لسنوات عديدة في إدارة معهد النور الخاص بمنطقته كان غاية في الإخلاص، ومبهرا ومحل تقدير كبيرين لكثر من غير المكفوفين أيضا..! كان حريصا على متابعة أهم التقنيات وأحدثها لمساعدة المكفوفين. مكافحا صوته مرتفع ضد كل الصور النمطية أو العنصرية التي تستهدف الضرير. كان ذكاؤه يكمن في خفة ظله وشخصيته القوية التي استطاع من خلالها توعية كثر بمسؤولياتهم تجاه المكفوفين دون استجداء أو إثارة الشفقة..! عنفوان كرامته كان يجعل ممن نظره «ستة على ستة» يخجل ويشيح بنظره عنه في حضرته رغم علمه بأنه لا يبصر..! وهج روحه، علمه، ثقافته، ثقته بنفسه كلها عوامل مكنته بالفعل ولسنوات طويلة من اختراق كيانات بشرية عديدة وتهذيب إنسانيتها. شخصية مؤثرة ولا شك في جيله، وأجيال من تلاميذه... لكن وضع كهولته اليوم يثير تساؤلات كثيرة...! .. تجده متصومعا يفضل الوحدة ولا يتعاطى مع أحد إلا نادرا. يجلس بالساعات في صمت. وكأنه لا يسمع ما يجري حوله. تنظر لماضيه الذي قهر إعاقة النظر بجسارة وتستغرب لماذا اختار «الصمم» اليوم..؟ يبدو محبطا.. كفارس فقد جواده..! يجعلك تتساءل: ماذا جرى على تلك الشموع التي أضاءها بداخله وأضاءت ما حوله؟ .. أخبت شعلتها؟ أم تراه يحافظ بصمته الرهيب على ضي ما تبقى منها..! من الصعب اليوم سبر أغوار كتمانه، هذا ما أكده أقرب المقربين إليه، لذا دعونا نترك الشيخ الجليل في حاله ولنحترم رغبته في مجالسة السكون ما تبقى له من عمره المكتوب... ولننظر لحال المكفوفين اليوم..!! لننظر بتمعن.... كيف هو حال معاهد النور؟ كمبانٍ ومناهج وتقنيات؟ كيف هو حال الكفيف من ناحية الحقوق ونبذ التمييز، خصوصا في العمل وطرق كسب العيش حسب الاتفاقيات الدولية؟ كيف هو حال المجتمع أتراه وصل في القرن الواحد والعشرين لكامل التأهيل لاستيعاب دوره ومسؤولياته تجاه ذوي الاحتياجات الخاصة؟ القنوات العربية التي يزدحم بها فضاؤنا.. هل تضع الكفيف في اعتبار ميزانيات إنتاجها الضخمة ومسؤولياتها الاجتماعية المتواضعة؟ أين وصلنا يا ترى في عملية الدمج؟ ربما.. بقليل من البحث في كل تلك الأحوال وغيرها.. سنستطيع «إبصار» رسالة حضرة المواطن الفاضل الصامتة.. فبها من البوح ما يوقظ كثرا ممن يعتقدون بأنهم مبصرون.. بينما هم في الظلمة تائهون.