كلما ارتفع مؤشر الضغط النفسي لدي، وشعرت بشيء من الضيق، حملت نفسي إلى مكان أجد فيه نفسي وذاتي، هي بالطبع.. جدة التاريخية، جدة الأصلية والأصيلة، أو «البلد» كما يطلقون عليها الآن. والحقيقة أنها هي «البلد» بالفعل، فهي البلد الحقيقي لكل جداوي، ولكل من ولد وتربى وعاش فيها. جدة تلك التي أعرفها وتعرفني، وأعشقها وتعشقني، وليست جدة التي انسلخت من أصلها وضاع منها الطريق. هل أنا «جداوي» متعصب أو متحيز؟ أو جداوي مشتاق وتواق إلى ماض لن يعود وحياة لا توجد؟ نعم أنا جداوي متعصب لحبيبتي مدينتي الأصيلة، مع كل بساطتها وتواضعها، ورغم تقشفها وضعف مواردها. هي الأصالة ذاتها، هي أصل كل شيء في وجداني، هي أمي وأبي وأجدادي، هي أنا وأصدقائي وأولادي وأحفادي. ويتساءل الأستاذ عبدالإله ساعاتي في مقاله «تاريخ جدة المهدر.. من المسؤول» يوم الاثنين 23 ديسمبر 2013. وينوه عزيزنا عبدالإله بخبر عقد اتفاقية مع شركة فرنسية لوضع خطة تطويرية لجدة القديمة !! هذا يذكرني بما دار بيني وبين شخص أقدره وأعزه كثيرا، محمد سعيد فارسي، حين كان أمينا لجدة، وقلت له لا تهدموا جدة القديمة وأبدأوا في مكان آخر خارجها، فأجابني لابد أن يترك كل جيل بصمته في المدينة، ثم اتفقنا أن يترك كل جيل بصمته ولكن ليس بمحو بصمة من سبقوه من الآباء والأجداد، بل بجانبها لكي يصبح للتاريخ دلالة ومغزى. وأخاف أن تكون البصمة التي ستتركها الشركة الفرنسية المزعومة مستعارة من حي سانت جيرمان أو مونمارتر، فتفقد بذلك جدة الأصيلة هويتها ورحيقها المتميز. لابد من أن تدرس تلك الشركة، إن صدق الخبر، تاريخ وتراث وثقافة وحضارة جدة الأصيلة، وهويتها وطريقة الحياة فيها، قبل أن توصي بنقل حجر واحد منها. ثم لابد من مشاركة مجموعة منتقاة من أهالي جدة المهتمين بتاريخ مدينتهم. قبل فترة قصيرة، قمت مع صديقي فتحي نعمة الله بالتجوال داخل جدة التاريخية، وهالنا مارأينا من تدهور مستمر في المباني التراثية وفي البيئة التاريخية، وتراكم القاذورات في الطرقات، والإهمال في نظافة وصحة البيئة. صديقي فتحي من عائلة معروفة في حارة الشام، وعلى معرفة جيدة بمنازل وعائلات جدة الأصيلة. ومررنا في حارة الشام بمبنى رائع، رغم تدهوره وقال لي صديقي إن هذه كانت المصحة الباكستانية التي أهدتها الباكستان لأهالي جدة لعلاجهم ورعايتهم الصحية، حين كانت جدة تفتقر إلى المستشفيات والأطباء. ثم تُرك ذلك المبنى مهجورا ليتدهور. وقلت له، لو تم إعادة تأهيل هذا المبنى وإعادة استخدامه، لأصبح علامة فارقة ورمزا للجمال المعماري على مستوى العالم كله. أفادني صديقي أن أرملة القنصل الباكستاني الذي كان يقطن في ذلك المبنى كانت تعيش هي وابنها في مبنى آخر صغير مجاور، وأنها مشلولة هي وابنها، وتعيش على معونات بعض الأهالي.. أحزنني ذلك، وتمنيت أن يتدخل المسؤولون لمعاونة هذه السيدة الفاضلة التي كانت تشرف على المصحة الباكستانية لخدمة أهالي جدة وسكانها في أيام الشح والحاجة، إن كانت لاتزال على قيد الحياة. ومضينا نتفقد ما تبقى من جدة التاريخية، ونتبادل الذكريات وأخبار عائلات جدة. مررنا بمنازل كانت تضج بالحياة والحركة، وأصبحت اليوم مهجورة وفي حالة محزنة من التدهور. مررنا في حارة الشام ببيوت باناجة، وباعشن، والشربتلي، وزينل، وناظر، وبن زقر، وبيت عبدالقادر وصالح عطية، وبيت الوسية، ومحمد صالح محمود، وموقع بيت نعمة الله، وغيرهم من أهالينا الأصليين في جدة العتيقة. ثم مررنا ببقية ما تبقى من منازل العائلات الجداوية، ومنها بيت نصيف في العلوي، ونور ولي، ومواقع بيت مختار في حارة البحر، والشربتلي، وبيت التركي، وبيت أبو داود، وبيت عبدالله موسى، وبيت الحفني، وبيت مسعود، والناغي، وبيت بكر، والعطار، والسندي، وبيت أبو صفية، وبيت عطية، وأبو زيد، وزاوية الصاوي الشهيرة (وقد تغير اسمها الآن إلى اسم غريب لا أعلم مصدره)، وبيوت أخرى لعائلات معروفة كثيرة لا يتسع المجال لذكرها هنا. ومررنا بمدارسها ومساجدها العتيقة الجميلة، وصلينا المغرب في مسجد الحنفي التاريخي، وتذكرنا مدرستنا القديمة في حارة الشام، المدرسة السعودية التي كان يديرها والد صديقي فتحي، الأستاذ عبدالعزيز نعمة الله رحمة الله عليه، مربي وأستاذ الأجيال. يا أخي عبدالإله، ستبقى جدة علامة فارقة في تاريخ الساحل الشرقي للبحر الأحمر، ولن يُهدر تاريخها، فجدة ليست مجرد مدينة، بل هي أحداث وتاريخ، للمكان والزمان والإنسان، باقية على مدى العصور والدهور والعهود.