قضية قديمة قدم النهضة العربية. شهدت في مصر مع بداية القرن العشرين معارك وحوارات، وانقسم الكتاب بين مؤيد للفصحى ومؤيد للعامية باعتبارها الأقرب إلى حديث الشخصيات. واشتط بعض المهاجمين للعامية أحيانا، فاعتبروا أن ذلك وراءه دوافع استعمارية في دول تسعى للتحرر من الاستعمار، حتى أن كاتبا عظيما مثل توفيق الحكيم كتب عن اللغة الثالثة الأكثر بساطة في رأيه، والتي تجمع بين العامية والفصحى خلاصا من الأمر كله. وحين ظهر يوسف إدريس بقوة مع بداية الخمسينات من القرن الماضي كانت المفاجأة أن من قدمه في مجموعته القصصية الأولى هو ملك الفصحى وعميدها وهو طه حسين. كانت العامية هي الغالبة طبعا على القصص. فالحوارات كلها بالعامية وكثير من السرد حتى أن عنوان الرواية لم يغيره يوسف إدريس وجعله بخطئه النحوي «أرخص ليالي» والصواب طبعا «أرخص ليالٍ». حسم طه حسين المعركة ليس لصالح العامية على الفصحي، ولكن لصالح وضع وحالة شخصيات القصص ومكانها وزمانها. في الشعر طبعا لم تكن المعركة بين العامية والفصحى، لكن مبدعي الشعر الحر لم يسلموا من الاتهام بتدمير اللغة. والحقيقة هم لا يدمرون شيئا. كل ما في الأمر أنهم وجدوا البحور والأوزان يمكن وغالبا ما تفعل ذلك أن تقيد حرية الكاتب في اختياره للكلمات تقيده القافية من ناحية، واتساع المشاعر يقيدها الوزن من ناحية أخرى، بينما اللغة العربية وافرة بالمترادفات مثلا. وحين انتقل فريق كبير من الشعراء إلى قصيدة النثر استيقظ الاتهام القديم. لم يكن الأمر لصالح الاستعمار هذه المرة، لكن لصالح القضاء على القومية العربية. ولم ينتبه أحد ولن ينتبه إلى أن القومية العربية فكرة وحلم سياسي لم يجد لتحقيقه غير نظم سياسية ديكتاتورية فرّقت بين العرب أكثر مما وحدت. وأن القومية العربية لا تعني أبدا تماهي كل الشعوب العربية، فهناك فوارق بنت المكان والزمان تصنع الشخصية التي تختلف من بلد عربي عن الآخر. ولا يعني أننا كلنا نتحدث العربية أننا كلنا مصريون أو شاميون أو عراقيون أو سعوديون أو يمنيون أو مغاربة.. وهكذا. ولا يعني أننا أبناء بلادنا أننا لسنا بعرب. فما يجمع بيننا في البلاد العربية من لغة وتاريخ مشترك وحدود مفتوحة أكبر من الاختصار، لكن الخصوصية مفتاح الوحدة إذا عرفنا كيف تكون الوحدة ليست نفيا لغيرنا وتاريخه وعاداته وتقاليد وقوام شخصيته. انتهى الأمر تقريبا ولم يعد يتحدث عن هذه المسألة أحد. أعني مسألة اللغة والمقارنة بين العامية والفصحى؛ لأن الإنتاج الروائي والقصصي لم يعد يقف عندها وأدرك الكتاب، المبدعون من فضلك، أن اللغة بنت الشخصية وحالتها ومكانها وزمانها. ورغم وجود أعمال حوارها كله بالعامية بحيث تصعب على القارئ خارج بلادها خصوصا إذا كانت عراقية أو مغاربية، إلا أن ذلك لم يمنع القراء ولا النقاد من قراءتها ولم تعد العامية عيبا. وأضيف أنه في حالة الكتاب، فأنت تشتريه أو تستعيره، وتعرف أنك ستخلو به، ومن ثم لا بأس أن تبذل مجهودا في قراءته، وتستطيع أن تعود إلى ما فاتك منه، أو تقف عنده لتفهم وتستوعب المعنى إذا صعب. أنا ممن يميلون لذلك، لكن على أن لا يكون هذا المجهود مرهقا. ومن ثم استخدام الفصحى في الحوار ليس مشكلة. والفصحى بها إمكانات أكبر من العامية رغم ما يبدو من صعوبتها أحيانا. فالعامية لا يمكن كتابتها إلا كما تنطقها أو كما تعود الناس عليها، بينما في الفصحى إمكانات أكبر في التقديم والتأخير مثلا ولها مرادفات أكثر. إذا لعبت في العامية ستأخذ القارئ بعيدا عن الشخصية وسيفكر في معنى ما كتبت ودلالته، بينما اللعب في الفصحى قد يقربه منها؛ لأنه أصلا لا يوجد أنماط مستقرة للحديث، بل على العكس الأديب البارع هو الذي يبتعد عن الأنماط اللغوية. العامية تتغير في التاريخ، والفصحى تتغير أيضا، وتقريبا لكل مرحلة ما يناسبها من مفردات. لكنك يمكن أن تجد من يفهم لغة العصر الوسيط الفصحى ولا يفهم اللغة العامية للعصر نفسه؛ لأن قليلا من الكتب احتفظت بها على عكس الفصحى. ومن ثم لن يكون صادقا فنيا أن تكتب رواية عن العصر العباسي مثلا باللهجة العامية المعاصرة ولا القديمة؛ لأنك لن تعرف عامية ذلك العصر كما تعرف عامية اليوم، ولا تاريخ المفردات العامية كما تعرف تاريخ الفصحي. الفصحى وإن صعبت يمكن فك رموزها ببساطة المعرفة. أقول ذلك بعد قراءتي لرواية «سجاد عجمي» لشهلا العجيلي التي وهي تتناول الفتن في القرن الثالث الميلادي في الشام عموما والرقة خصوصا لم تسع إلى أي إسقاطات على الحاضر والعكس صحيح. لكن كما قلت الصدق الفني الذي يجعل القضايا المصيرية قضايا إنسانية يجعل الموضوع مسألة كل عصر، وإذا نظرت حولك لن تجد أننا ابتعدنا كثيرا. استخدمت الفصحى ببراعة وشاعرية تباعد بينك وبين ما تعودت عليه من قص أو حوار وتقارب بينك وبين عصرها. الفصحى في عصرها بين يديك تجعلك تعيش في التاريخ وتعطيك الإحساس ببعد المسافة. ورغم ذلك ستجد بعد أن تنتهي أنك عائد من هناك بمتعة وألم جميلين. فإذا رأيت الحياة التي حولك لا تختلف فذلك لصدق المشاعر الإنسانية التي لها صفة الدوام. الحب والهجر والوحدة والصراع على المصلحة. الرواية التاريخية تأخذك إلى عصرها المتخيل طبعا. وأنت حر في النهاية أن تجد طريقا إلى عصرك أساسه مشاعرك أثناء وبعد القراءة، وليس أساسه قصدية الكاتب لإعادة تفسير السلوك البشري بما يقتضيه الحال الآن. وبعيدا عن الروايات التاريخية واللغة نظل في اللغة بعيدا عن أي نوع من الروايات. وأقرر أن كل دعاوى استخدام العامية أو الخروج على قوالب الشعر التقليدية، ومنها الشعر الحر الآن، لا علاقة له من قريب أو بعيد بالسياسة والأهداف السياسية التي يتهم بها الخصوم المجددين. وما يبدأ صغيرا ويكبر أمام عينيك في الإبداع الأدبي ليس وراءه دول ولا منظمات إرهابية مثلا. وراءه ببساطة رغبة المبدع في الانطلاق أكثر عبر لغة جديدة وعصرية في تقديم رؤيته للعالم. ومن ثم سيأخذنا الأمر إلى مفردات في عصرنا لم تكن مستخدمة من قبل سببها الميديا الجديدة. الإنترنت، يرى البعض أن في الأمر تحطيما للغة العربية. وأرى أنه اكتساب لمفردات جديدة لها شئنا أم أبينا. وفي اللغة العربية مئات من المفردات الأعجمية أصلا كما في اللغات اللاتينية عشرات من المفردات العربية. ولم يكن عيبا أن عالمنا العربي يتوسط العالم وتهب عليه كل الثقافات ويختار من مفرداتها في العصور القديمة. وليس عيبا أن العالم كله الآن صار «موبايل»، ولا يجب تضخيم الأمر، فمفردات هذه الميديا ليست من الكثرة بأن تجور على عاميتنا كلها في كل قطر ولا فصحانا، وكلاهما قابل للتجدد في كل العصور. وفي النهاية الرواية بالذات احتفالية. أو بلغة باختين كرنفالية. وتأتي هذه الكرنفالية بسبب تعدد شخصياتها، فماذا تقول الآن إذا كان في روايتك شخص لا يترك الفيس بوك ولا تويتر. هل سيقول لك غير ما يفعله. يدلّت أو يفرورد أو يبلّك. ستصير هذه وغيرها مفردات في أحاديث بعض الشخصيات الأدبية، لكنها طبعا لن تكون كل الحياة. مثلها مثل بقية مفردات حياتنا الأخرى. والصدق الفني في الكتابة أصل أصيل لاستخدام أي مفردة. وربنا يستر علي من أي هجوم. وأنا والله ضد أي غزو فكري وأحب اللغة العربية وأعشقها، بل وأدين لها بالوجود. [email protected]