تحدثت قبل أربع سنوات في معرض الدوحة للكتاب حول موضوع التلقي الأمريكي للأدب العربي منذ 1950 ومما أشرت إليه الاتساع النسبي في حضور الأدب العربي في الولاياتالمتحدة قائلاً عنه بأنه قد يكون الجانب الإيجابي الوحيد في العلاقات العربية الأمريكية بسبب حقيقتين: الأولى ما أحرزه الأدب العربي من تقدم ترجمة ودراسة ومن حيث الإقبال عليه خارج دائرة المختصين من القراء بالرغم من المواقف الأمريكية المعادية غالباً للعرب والمسلمين لاسيما بعد أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) وبالرغم مما يتعرض له العرب أو الإسلام من حملات التشويه المتصاعدة بشكل لا نظير له في التاريخ الأمريكي الحديث. أما الحقيقة الأخرى التي تدفعني إلى اعتبار هذا الحضور تطوراً إيجابياً فهي هامشية الأدب العربي. إن لم تكن غيبته - في الجامعات الأمريكية وغيرها من المجالات في مرحلة ما قبل الخمسينات مقارنة بتوسع تدريسه وتدريس اللغة العربية في عدد كبير من الجامعات أو الكليات. وأعتقد أن هاتين الحقيقتين تصدقان على تدريس اللغة العربية وتطوره الإيجابي المستمر في مختلف الجوانب التي تمسّ العربية منذ خمسينيات القرن الماضي حتى يومنا هذا. من الصعب الإلمام بالتطور المذكور تفصيلا في هذا المقام غير أن من الممكن التلميح إلى أهم معالمه البارزة أو المنجزات التي تخدم العربية. أولا: ازدياد عدد الطلاب الذي يدرسون العربية في المعاهد العالية من 525 طالباً في عام 1960 إلى أكثر من 35.000 طالب وبلوغ العربية المرتبة العاشرة بين اللغات الأجنبية (بعد الصينية واليابانية) ومما لا شك فيه أن لحادث الحادي عشر من أيلول دوراً حاسماً في هذه الزيادة كما يتضح من إحصائيات منظمة اللغات الحديثة التي تبين مسار دراسة اللغات الأجنبية بين 1959- 2009م. هذا بالإضافة إلى التطور المحدود نسبيا في عدد التلاميذ الذين يدرسون العربية في المدارس الابتدائية والثانوية. ثانياً: نمو التنظيم المهني وفعالياته ومنجزاته بفضل جهود الرابطة الأمريكية لأساتذة العربية (1963) وتواصلها مع منظمات أخرى تعنى بتدريس اللغات الأجنبية الحديثة وما لهذا التواصل من أثر في تطوير مناهج اللغة العربية والاهتمام الجاد بإعداد معلمي العربية كلغة أجنبية، وذلك بالرغم من الإحساس العام بان هذا الاهتمام لما يحقق العدد الكافي من المؤهلين لتدريس العربية حتى اليوم. ثالثاً: وفرة البحوث والدراسات التقويمية التي تتناول العربية وتدريسها واختبارات الكفاءة اللغوية التي أسهمت في تطوير تدريس العربية، وإعادة النظر في المناهج وكتبها والوسائل التعليمية المستخدمة؛ ولعل من أهم ما يتميز به هذا النمو المعرفي في خدمة العربية كلغة ثانية هو كونه نتاج عمل جماعي أو فريقي يشارك فيه عدد من المختصين من مختلف المعاهد. أذكر على سبيل المثال خمسة كتب لا يستغنى عنها من يعنى بتدريس العربية في الولاياتالمتحدة. 1 - اللغة العربية في أمريكا 1992 (خمسة عشر كاتباً). 2 - تدريس العربية: الواقع الحالي وتحديات المستقبل 1995 (أربعة عشر مشاركاً). 3 - الدليل لممارسي تدريس العربية في القرن الحادي والعشرين 2006 (أربعة وثلاثون مشاركاً). 4 - العربية والإعلام: تحليلات وتطبيقات لغوية 2010 (أربعة عشر مشاركاً). 5- علم اللغة في عصر العولمة: نظرات حول اللغة العربية وتعليمها.. (2008 ثلاثة عشر مشاركا). وأود أن الفت الانتباه إلى منجز حديث مهم يخدم العربية في وطنها وخارج وطنها إلا وهو معجم الألفاظ الشائعة لمؤلفيه: تم باكولترو دلورث باركنسن وهو مبني على مسح نصوص حديثة متنوعة يبلغ مجموع ألفاظها (30)ثلاثين مليونا ويضم 5000 لفظة تعتبر أكثر الألفاظ شيوعا مدرجة أولا حسب شيوعها والفبائيا ثانيا. أما ما يتصل باستخدام الكتب والنهج المتبع في تدريس العربية، فيمكن القول بأنهما مرّا في ثلاث مراحل: المرحلة الأولى: مرحلة التركيز المكثف على تعلم قواعد اللغة العربية، باستخدام بعض كتب النحو المشهورة: كتاب ثاجر، ووليم رايت، وكتاب «اللغة العربية وقواعدها» للمستشرق «يوحانان كابلفاتسكي Kapliwatzky وقد نشر أصلاً في القدس عام 1940 وكان مستعملاً في جامعة هارفرد في الخمسينيات من القرن الماضي ومن مميّزات هذا الكتاب استخدامه التشكيل التام، ونصوصاً قصيرة أو موجزة من الكتب والصحف العربية وبينها كتاب حافظ وهبة جزيرة العرب (في الجزء الثالث) والأهرام ويبدو أن هذا الكتاب ما يزال-برغم قدمه- يلقى اليوم اهتمام بعض الراغبين في تعلم العربية كما يشير إلى ذلك رواد موقع ال»أمازون». [علماً بأن الأستاذ روجر ألن اعترف بأن دراسته للفصحى في جامع ة كبردج اعتمدت على منهج مماثل في دراسة نحو Thatcher لثمانية أسابيع، وثلاثة كورسات (مساقات) تتناول القرآن الكريم ومقدمة ابن خلدون ومقامات الحريري والهمذاني]. المرحلة الثانية بين الستينيات وأواخر القرن الماضي وقد شاع فيها استخدام كتاب العربية المعاصرة بجزئيه 1968-1971 الذي ألفه فريق من المختصين تحت إشراف الأستاذ بيتر عبود وبينهم الطعمة. وإذا كان لي أن أشير إلى أهم ما يميّز هذا الكتاب فهو أولا كونه نتاج مناقشات تمت في ملتقيات (ورشات) عدة (جامعات مشيغن 1965 وكولومبيا (1966) وبرنستون 1967)ضمت عددا من أساتذة العربية في عدة جامعات وتعاون مؤلفيه الذين يمثلون جوانب مختلفة تمس تدريس العربية بما فيها الأدب. وثانياً تميّزه منذ البدء في إعداده بالتزامه الفصحى التزاماً تاماً وفقاً للهدف المرسوم المتفق عليه في مختلف طبعاته وهو أن تكون الفصحى هدف الطلاب المقصود من تعلم العربية في المعاهد الأمريكية. إن الالتزام بهذا المبدأ لا يعني تجاهل أو إنكار أهمية تعلم العامية (أو اللغة المحكية) أو الادعاء بأن الفصحى هي اللغة التي يتكلمها العرب أنفسهم، بل يراد منه التأكيد على أن لا طريق سوى الفصحى إلى اكتساب كفاءة عالية لتفهم الثقافة أو الحضارة العربية الإسلامية في مختلف حقولها: الدين - الأدب - التاريخ - السياسة - الفلسفة الخ سواء في سياق حاضرها او ماضيها.وقد علمت أخيرا أن الأستاذ عبود على وشك أن يقدم للمطبعة طبعة منقحة للجزء الأول تحت عنوان:Advanced Modern Standard Arabic (AMSA)وانه ظل ملتزما بالمبدأ المذكور. المرحلة الثالثة وتبدأ منذ أواخر القرن الماضي وتزداد وضوحاً بعد أحداث الحادي عشر من أيلول 2001 حيث يلاحظ تكرار التأكيد على أن الفصحى لا تخدم متعلميها كلغة تواصل - في دراسات كثيرة- وبينها دراسات ميدانية حول لغة الكلام عند المثقفين أو الأدباء أو الأكاديميين (في ضوء عينيات مصرية) لتبين مدى اختلافها عن الفصحى، واختلاف مستوياتها. كما يلاحظ في هذه المرحلة التوجه في إعداد الكتب إلى ما يسمى بالمنهج التكاملي أو المتكامل (الجمع بين الفصحى والعامية) كما نراه في محاولات الأستاذ منذر يونس (جامعة كورنيل) وقد جمع في آخر كتبه عربية الناس: برنامج متكامل لتعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها (2006)بين ما يسمى بالعربية المشرقية (سوريا - لبنان - الأردن - فلسطين) مع العربية الفصحى الحديثة على أساس أن هذا النهج يعكس الواقع اللغوي في العالم العربي حيث يتكلم العرب لهجة محلية في الحديث ولغة مكتوبة (أي الفصحى) للقراءة والكتابة والخطاب الرسمي وأن متعلميه من الذين يزورون البلاد العربية يستطيعون التعامل أو التواصل بسهولة أكثر من طلبة البرامج الأخرى. (انظر Daniel Aloi. « CU to launch yearlong intensive Arabic language programs.» Chronicle January 22, 2009. ولعل أكثر الكتب شيوعاً في هذه المرحلة هو الكتاب في تعلم العربية لمؤلفيه الأساتذة كرستن بروستاد ومحمود البطل وعباس التونسي. وأهم ما يميّزه عن كتاب العربية المعاصرة (بيتر عبود وآخرين) تضمينه العامية في بعض محتوياته لكونها لغة التواصل التي يستعملها العرب في حياتهم اليومية. وقد جاء في مقدمة الجزء الأول ما يشرح أو يبرر هذا النهج في مواضع عدة، ) « أن جوهر «الأصلية» من وجهة نظرنا يتمثل في التعامل مع واقع اللغة دون وصاية. وإذا كان الهدف الأساسي لهذا الكتاب هو تعلم الطلاب للفصحى فإننا لا نستطيع من أجل هذا الهدف أن نقدم للطالب لغة مصنوعة لا تنتمي للواقع تكريساً لانفصام نكد بين الفصحى والعامية.» (xvii) ) «... وأية فصحى نريد أن نقدمها لطلابنا؟ وكيف؟ ووجدنا أن موقف توجه الشخصيات بالحديث إلى جمهور أو متلق تعرفه بنفسها وبعالمها يحتمل نوعاً من الفصحى المبسطة التي تلتزم مبدأ «سكّن تَسْلم، أما الحوار فمن الطبيعي أن يكون بالعامية لأن أي حوار بالفصحى بين شخصيات القصة سيكون مصطنعاً» (xviii) ) « إن قضية العامية والفصحى، كما يتضح مما تقدم، وثيقة الصلة بقضية الأصلية وهي تمسّ صلب الفلسفة التي يقوم عليها هذا الكتاب بمختلف أجزائه. وقد ارتأينا أن نعرّض الطالب إلى العامية بشكل تدريجي بحيث يفهم طبيعة العلاقة التي تربط بين الفصحى والعامية ويدرك أنهما تمثلان امتدادين لواقع لغوي واحد وأن بلوغ أي مستوى من الكفاءة في اللغة العربية لا يمكن أن يتحقق بواحد من هذين المكونين دون الآخر» (xviii). أما العامية التي اختارها المؤلفون فهي العامية المصرية لأنها «أكثر العاميات العربية انتشاراً على امتداد العالم العربي» علماً بأنهم لا يرون أي ضير في أن يقوم المدرس الذي يتكلم لهجة من اللهجات الأخرى بتقديم بعض العبارات والمفردات من تلك اللهجة، فنحن لسنا هنا بصدد فرض أي لهجة على طلابنا وزملائنا ولسنا نرى أي فرق بين أن نعرّض الطلاب إلى هذه العامية أو تلك إنما المهم في رأينا هو تزويدهم بجرعة من العامية تسمح لهم بإدراك واقع اللغة والإطار والثقافي الذي تحيا في ظلّه.» (xix). ليس من اليسير أو العدل الحكم على مدى إمكانية هذا النهج في تحقيق الكفاءة اللغوية المطلوبة سواء في استعمال العامية المختارة أو الفصحى، غير أننا نعلم أولاً ما للازدواج اللغوي من تأثير سلبي في تعلم الفصحى في وطنها، ونعلم ثانياً أن تحقيق الكفاءة في الفصحى - وهي الأساس- يتطلب تفرغاً تاماً وولاءً غير موزع في تعلمها لفترة غير قصيرة. وقد بينت في موضع آخر كمثل على صعوبة تحقيق الكفاءة في الفصحى أن دراسة الأدب العربي بلغته الأصلية ظلت مقتصرة على عدد محدود من الطلبة الأمريكيين، وتنطبق هذه الملاحظة على من يريد التخصص في الحقول الأخرى كالتاريخ والعلوم السياسية والدين وغيرها. هذا في رأيي أحد وجوه الخطر الذي تتعرض له الفصحى في الولاياتالمتحدة الأمر الذي يدعو إلى التأكيد على ضرورة الالتزام بمنهج التفرغ التام لتدريسها لا في المرحلة الجامعية الأولى، أو مرحلة الدراسات العليا فحسب، بل كذلك في مرحلتي الدراسة الابتدائية والثانوية. كما يتطلب إعداد مواد تعليمية مساعدة تتجاوز مستوى الكتاب الجامعي، كالمواد التي أعدت في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي وأذكر منها كتاب فرحات زيادة وسلسلة كتب جامعة مشيغن قراءات في القصة والمقالة والشعر، وكتاب منح خوري ووليم برنر، وغيرها مما لا نجد له أثراً في المرحلة الأخيرة. أما موضوع تدريس أية عربية محكية أو ما يسمى باللغة الوسطى أو لغة المثقفين فهو جدير أن يلقى الاهتمام وأن توفر الكتب المطلوبة الضرورية التي تناسب اللغة المحكية المراد تدريسها لمن يختارها من المتعلمين (عربية الخليج -المصرية-المشرقية وغيرها من العاميات في الوطن العربي) بشرط ألا يوحى للمتعلمين بأنها الوسيلة لتفهم العرب أو المسلمين وحضارتهم في هذه المرحلة أو قبلها من تاريخهم أو أنها تؤدي إلى الكفاءة المطلوبة في اتقان الفصحى. وهناك أخطار أو قل تحديات أخرى تواجه الفصحى في الولاياتالمتحدة وقد ازدادت حدة بعد حادث الحادي عشر من أيلول 2001، متمثلة في الحملات المعادية للعرب - للإسلام- للفصحى كما تدرس أو يراد تدريسها ومنها الحملات المعارضة لقيام أكاديمية خليل جبران في نيويورك بتدريس العربية بذرائع مختلفة كالقول بأن محتويات مادة العربية ذات طابع إسلامي أو عروبي متطرف، أو أن تعلم العربية بذاته يشجع الميول الإسلامية، كما يقول دانيال بايبس المعروف بميوله الصهيونية أو الملاحقة المستمرة في موقعه الذيسعى إلى مراقبة من يدرس أية مادة تتصل بالعالم العربي وخاصة فلسطين، أو الكتب التي تدرس العربية. هذا بالإضافة إلى الحملات التي أدت إلى إلغاء تدريس العربية في المدارس الابتدائية (2011) في ولاية تكساس بالرغم من أن تدريسها كان جزءاً من منهاج فيدرالي لتشجيع تعلم العربية في المدارس الابتدائية والثانوية. دع عنك الشعارات أو التصريحات غير العقلانية التي تسم العربية بأنها لغة الإرهابيين أو لغة من لا يضمر للشعب الأمريكي أو أمريكا غير الشر والأذى. وتواجه الفصحى خطرا أو تحديا عربي المصدر إلا وهو توجه بعض الكتاب والأدباء اللبنانيين إلى التأكيد على تعلم أو تعليم ما يسمى ب»اللغة اللبنانية» واعتبارها لغة مستقلة لها نتاجها الأدبي والثقافي وما يرافق هذا التوجه من تيار في المهاجر عامة(استراليا- كندا- الولاياتالمتحدة) يشجع أبناء المغتربين على إشاعة تدريسها بدلا من الفصحى ومما يؤسف له أن هذا التوجه لا يخلو من تطرف في اعتباره الفصحى لغة ميتة كما يقول الشاعر موريس عواد: «لم يكمل سعيد عقل مشروعه الذي بدأه في الستينات يوم طبع كتابه (يارا) وكنت إلى جانبه عند ولادة الكتاب. والمسألة اليوم بحاجة إلى عالِمٍ يصلح اللغة والحرف في لبنان أو أن يكمل ما بدأه شاعرنا الكبير لإصلاح العقل المعطوب في لبنان وعلى كل المتوسط الشرقي بسبب اللغة غير المحكية الميتة. وفي العلوم يقولون إن لغة لم تعد محكية هي لغة ميتة. فكل لغة لا نعيش فيها هي لغة ميتة. ولا يعني ذلك أنها غير صالحة، ولكن لا تستطيع أن تكتب بها وجعك. تستطيع أن تخطب بها أن تتذكر فيها أن تكتب جغرافيا وتاريخ....» من المتوقع أن تستمر هذه الأخطار أو التحديات التي تواجهها الفصحى في مرحلة ما بعد الحادي عشر من سبتمبر لأسباب سياسية معروفة مما يدعو إلى مضاعفة الجهود في مجالات عدة كتوعية الرأي العام الأمريكي بما للعرب من مطامح مشروعة في علاقاتهم الخارجية ومواصلة دعم تدريس الفصحى سواء كان ذلك في الإطار الجامعي أو في مؤسسات تعليمية أخرى عربية وإسلامية وتأكيد أو إبراز دورها كلغة حية تخدم أبناءها في مختلف حقول المعرفة والثقافة والعلوم والإبداع. ولا أريد أن أنهي هذا العرض السريع دون الاستشهاد بما ق اله المفكر العربي الكبير الأستاذ إدوارد سعيد قبل أكثر من عشرين سنة (1990): « العربية [ ويقصد بها الفصحى] موضع الصراع على نحو فريد في الثقافة الحديثة إذ يدافع عنها ويمجدها الناطقون بها ويقلل من شأنها ويهاجمها ويتجاهلها الأجانب الذين تمثل بالنسبة لهم آخر حصن من حصون العروبة والإسلام.»