وإن تحولت الرواية في نهاية المطاف إلى استعارة كبرى إلا أن التنصل من الحكاية نجده في مواقع عدة وهو ما يبعث على الشك والارتياب. أولا في جدوى الكتابة نفسها وجدوى التغيير أيضا. يحضر في الرواية نفس شعري ينقطع تارة بالصمت يحضر تضمين الشعر خاصة في عناوين أقسام الرواية. ولم تحضر هذه التضمينات مقحمة بل جاءت وظيفية ومكملة لتصور سردي. كما أن تضمين بعض ملخصات أشرطة سينمائية أو استدعاء شخصيات أدبية أو فنية أو الاحالة على مقاطع موسيقية بعينها. إنما جاء لتعشيق السرد والسمو بقيمته الجمالية المرتبطة أساسا بذوق الشخصيات في الرواية. وترتبط هذه الاستراتيجية السردية بطموح المؤلف لافتراض قارئ يحتاج إلى وجهة نظره حول الرواية. وما دمنا قد سقنا وجهة النظر فإنها وجهة نظر مرتبطة بما يكونه القارئ من الحبكة التي تنمو بشكل ملتبس. وما يزيد الأمر تعقيدا والتباسا أن ضمير المتكلم لا يقدم الأحداث إلا من وجهة نظر لا يمكن توقع التالي منها. ومن هنا يفسح لنا السارد المجال للمقارنة بين منظورنا للعالم ومنظور السارد ولا مفر لنا من أن يترسب إحساس خافت في أعماقنا يهتف كصوت مضمر بين ثنايا السرد أن ما نتلوه وما نتلقاه ليس سوى سيرة ذاتية تضاعف سرادها وتحافظ على طابعها التوثيقي ويواصل الصوت اختراق الحدود الخيالية ليصل بنا إلى الحدود الذاتية والواقعية. هل يريد السارد إبعاد الارتياب عنا؟ وإثباث يقينية السرد؟ يدعم هذا التأويل المعالم التخييلذاتية التي تشبه ما اقترفه سرج دوبروفسكي في كتابه أبناء سنة 1977 الذي مارس من خلاله لعبة سردية عن أبناء جمع فيها دوبوفسكي مفردا بصيغة الجمع شخصية واحدة تنشطر إلى شخصيات: الأستاذ والعصابي والابن السيء والروائي. كل هؤلاء يتعايشون في الرواية بتفاهم وانسجام كبير. إن اللعبة ذاتها نجدها في «يصعد الدرج مساء» إذ تتعدد فيها الألوان والوسائط والنصوص المضمنة سواء كان مقروءة أو بصرية نلاحظ الاهتمام بالجمالي في الحياة والأدب والسينما.. وتتماثل الشخصيات في مرآة تنعكس من خلالها صورها المتشابهة والمتلاحمة. ولولا هذا المنحى الذاتي الحاضر بقوة في الرواية المنتظم في نسيج متكامل من خلال الأصوات المتكلمة والمتناجية والمتجاورة في حياة واحدة. وكلما انغمرنا في القراءة إلا غمرنا إحساس جواني أن الشخصيات الواردة في الرواية تتناوب على السرد وتتناوب على كتابة الرواية: الرواية المتمنعة والمنيعة واللعينة الناقصة التي لا تريد أن تكتمل ولا يجب أن تكتمل: ونورد هنا مقاطع للتدليل على ذلك: يقول السارد المحوري وهو في طريقة للعلاج واللاعودة، تاركا الرواية بين يدي سمر ونواف: لم يكن هناك ما يحتاج إلى الترتيب حيث الحقيبة في مكانها، سوى بعض الأوراق المكتوب في أعلاها «مساءٌ يصعد الدَّرج رواية» وضعتها في الحقيبة واستبدلت القميص ذي الورود الزرقاء الصغيرة ببنطلون وقميص أسود ولبست حذائي الجلدي الداكن ونزلت إلى أسفل باتجاه الاستقبال. ويقول نواف عن الرواية: قبل أن أنهي الكتابة لم يعد لديّ ما يهمّ لأقوله أو أرويه غير أنّ كتابتي لهذا الجزء كانت محاولة لإكمال ما تبقى له من العمر حسب رغبته التي أحببتها واحترمتها وسأصلي لها ما استطعت. رغبته التي تركها لي في ورقة صغيرة بخطٍ متعرّج فيها ما يهمّ أن أحكيه وفيها ما لا يهمّ سواي، وأنا هنا لست سوى رجل لم يبلغ بعد، يعبُر في الورق بفعل فاعل عن عمد. أما ما تبقى من حياتي فلن يكون عاراً عليّ سواء قلته فيما بعد أو سكتُّ عنه. أعرف أنّي سأمضي كما يُحبّ تماماً دون أن أحذف عبارة واحدة أرادني أن أكون عليها رافعاً رأسي في وجه كل شتائم الحياة التي لا تتردد عن إطلاقها في وجوه العابرين. وأعرف أنّني سأحبه حتى بعد موتي وسأبحث عنه بين كل اللفافات مثلما أحَبّ أن يتركني حراً وأن أعيش حراً وأن أخلّص نفسي من كل أنياب الأفاعي التي تتربّص بحياة الطيبين وتحاول أن تمسح وجوههم وأرواحهم من خلاف... بلون الموت والسيوف والدم والسُّمّ في النهاية. أما سمر التي ستتكلف بالمخطوطة فستعترف قائلة: بعد أن راجعت كلما كُتب تأكدّ لديّ أنّ معرفتي بالكتابة أقل بكثير من المستحيل وأقل كذلك من الممكن. أجد نفسي عاجزة عن ترك أكثر من سطرين غائرين على ورقة صفراء بجانب طاولة الدواء قُرب السرير، وهي إحدى ورقتين عجزت عن تركهما دون أن أعتني بأظافرهما وبقميصهما مثلما أعتني بحياتي التي تركت من أجلها كل من أحب لأجل ما أحب. وتضيف أيضا: مقارنةً بما كتبه كل منهما على حدة سأبدو غريبةً حتى في لغتي لكنني سأطلب من نواف أن يراجع كل ما كتبت فهو لن يخون ثقة الرجل الذي أحبه ولو في عبارة واحدة، أما رأيه فيما سيُغيّر أو فيما كتبت فحتماً سيبقى سراً، لأنّه لا يمكن أن نستمر في إفشاء كل ما يحدث حتى وإن كانت هذه الكتابة ستكون كتاباً بين أيدي الناس موشوماً ب «رواية» على الغلاف أو على الأقل هذا ما أعرفه وأتوقع أن يحدث. هذا على الأقل رأيي الذي أكتبه بعد أن أنهيت قراءة ما كتباه في الفصول السابقة لكي يتيح كل واحد منهما فرصةً للآخر ولي لإكمال ما تبقى. هذا الطابع اللايقيني يدفع السراد إلى صفية حساباتهم النهائية مع الأيديولوجيات الراسخة على قناعات عقيمة. ومعتقدات بائدة يصاحبنا صوتهم الشقي الراغب بإزاحة الأقنعة والحجب التي تمنع الحقيقة من الظهور. وربما لهذا السبب كان لابد من مضاعفة الذات من خلال تشذ يرها وتعمد انشطارها في الرواية. لا يمكن إخفاء الرغبة الجامحة لهذه الذات في التوحد والانسجام والانخراط في بناء حياة جديدة أفضل خالية من المرض والتشوهات والقسوة. كانت أصواتهم بمثابة نداء مرسل إلى مرسل إليه مجهول. الأمر أشبه برسالة نجدة ملقاة داخل قنينة في عرض البحر لا يمكن أن نتكهن بمن سيلتقط الزجاجة. إن الخطاب المشحون بهذا الصوت الحميمي المتعاقب بين السارد ونواف وسمر يمنحنا إحساسا بأن السارد يلقي بصوره النفسية والذهنية كاملة صوب قارئ مستهدف بتلقائية ذكية. رواية «يصعد الدرج مساء» إذن تسعى إلى التواصل أولا وإلى التحرر ثانيا ثم إلى إصلاح ما يمكن إصلاحه أخيرا. البحث عن الخارج المماثل وربما الحميمي تتقصده الرواية منذ البدء السارد يسعى نحو نواف وسمر وهذه الأخيرة تستعى بعد موت السارد الأول نحو نواف: هذا التوق نحو تواصل حالم ومتمرد يجعل الأطراف رغم تناقضاتها ووعيها الشقيّ تتآلف على وعي نقيّ لبناء عالم طوباوي ولا يمكن أن يتحقق هذا الطموح إلا بسرد ذاتي ومتخيل يسعى إلى إصلاح الخلل وملء الشروخ من خلال إعادة تشييد الهوية وكينونتها المتشظية. هل الكتابة تمارس فعلا هذه السلطة؟ يبدو أن الشخصيات الرئيسية تؤمن بجدوى الكتابة ففي كثير من المواقع ترد كلمة ضرورة استكمال الكتابة أو تغيير ما تمت كتابته. يبقى المبدأ الأساسي الذي يطمحون إليه جميعهم يتمثل في اعتناق الحرية والدفاع عنها. ومن هنا لا يمكن أن نعيد بناء الهوية إلا بمنح الشخصيات حرية الاعتراف والبوح والخرق وتجاوز الحدود الممكنة الآمنة والآثمة. يتحقق هذا بضمير المتكلم المتوهج بكل تجلياته وبأصواته الثلاثة: الكاتب/نواف/سمر. تنضح الرواية بطاقة حميمية قوية تجعلنا مرغمين على عقد تحالف مفترض مع سرّادها منساقين مع خطابهم السردي الذي يؤجج الارتياب ويلغيه، يعرض الواقع ويزيفه، يسرد الوقائع ويحرفها، يبني الحكاية ويهدمها، يطرح البدائل واستحالة تحقيقها. ولعل ما يزيد هذا الالتباس تلغيزا حضور المؤلف الضمني الذي يكتب رواية بنفس عنوان الرواية التي كتبها المؤلف الحقيقي. هذا التماثل بين المؤلف الحقيقي والمؤلف الضمني يضاعف من إمكانيات التأويل رغم تستر السرّاد على اسم السارد الحقيقي وتواطؤهم على التلميح لا التصريح يدفعنا إلى إدراج السرّاد في مركبة واحدة ورحلة واحدة. هي رحلة تجميع صورة السارد المريض الحاضر والغائب. يقول جيرار دونيرفال: «أنا مجرد صورة، ألاحقها. هذا كل ما في الأمر» وبالفعل لاحق السراد صورة السارد/المؤلف الضمني خلال صعوده الطويل نحو ذاته لإستعادتها وإعادة بنائها ولم استبدال الدماغ المريض بالورم السرطاني بدماغ آخر. أليست هذه استعارة كبرى إلا ضرورة استبدال العقليى العربية المريضة المتورمة بعقلية أخرى جديدة ومغايرة ومتطورة ذهنيا ونفسيا، تؤمن بالعقل والفن والجمال الإبداعي. وأخيرا وبفضل كتابته السلسة بلا رتوش تمكن الروائي عادل حوشان من لمس القارئ بنفسه الشعري وإبداعه في الوصف وتأملات واعترافات الشخصيات السيرذاتية. لغة شاعرية منزاحة نحو الحسي والوجداني. ورغم أن الحكاية غير مخلصة لقارئها بحكم الخيبة المضاعفة التي نجنيها في النهاية. وقد تبدو الرواية حكاية عادية في البداية، لكن كتابتها الجميلة، وتعقد علاقات الشخصيات وتشابك مصائرها الإنسانية وحضورها الوجودي التراجيدي، يمنحنا قراءة دينامية، ممتعة، ومفتوحة. ولهذا السبب بالذات سأعيد قراءتها مرة أخرى وأنا استنفر حواسي لالتقاط أصوات ونبضات أخرى.