تضمنت خطبة الوداع التي ألقاها النبي صلى الله عليه وسلم على المسلمين في حجه الوحيد في العام العاشر للهجرة، على مضامين عدة منها السياسية، الاقتصادية، الحقوقية، كما راعت وضع الجانب النسائي، إذ كانت العبارة الشهيرة: «أوصيكم في النساء خيرا». وأوضح مختصون في عدد من المجالات أن المضامين التي جاءت في خطبة الرسول صلى الله عليه وسلم قبل 14 قرنا تنطبق على واقع المسلمين اليوم، إذ تميزت رغم أنها موجزة بمجمل ما يحتاجه المرء في حياته. ولفتوا إلى أهمية الرجوع إليها باستمرار لما تحويه من فوائد جمة، مطالبين عموم المختصين في مختلف المجالات بالتعرف على الخطبة والاستفادة منها. قال عضو هيئة كبار العلماء الدكتور عبدالوهاب أبو سليمان، فقال: «خطبة النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بعرفات، برغم وجازتها وقصر مقاطعها، لكنها حوت دلالات شرعية، ونصائح دينية واجتماعية تمثل المبادئ الإسلامية الصحيحة، إذ إن من أهم ما أعلنه صلى الله عليه وسلم في تلك الخطبة حرمة الدماء، وحرمة الأموال، كما تشير إلى أن المجتمع الآمن هو الذي يأمن أفراده على نفوسهم وأموالهم، وهو الذي يخطو إلى التقدم والازدهار حضاريا، ويتقدم بالإنسانية إلى حيث إرادة المولى جل وعلا من عمار الكون وإصلاحه». وأضاف أبو سليمان: «التزام الأمة بما حوته هذه الخطبة النبوية هو ضمان أمنها، ورخائها، وتقدمها، ونصرها على أعدائها ما تمسكت بمدلولاتها، واتخذته منهج حياة». وذكر أن مما يعين على حماية الدماء والأموال والأعراض توعية المجتمع المسلم بأهميتها، والمحافظة على حرمتها، ومما يعين على هذه التوعية الاطلاع على خطبة الوداع، إذ إن من فوائد التعرف على خطبة الوداع إبعاد مجتمعنا عن الانزلاق في وحل التقليد الأعمى، دون وعي للنتائج المهلكة التي تخرق الحرمات. حقوق الإنسان وقال الأمين العام للهيئة العالمية لتحفيظ القرآن الكريم التابعة لرابطة العالم الإسلامي الدكتور عبدالله بصفر: «من يطلع على هذه الخطبة الفريدة سيتبين له ما تحويه من فوائد وعبر، إذ تتضمن حقوق الإنسان في مختلف المجالات، فهي تراعي كرامة الإنسان وحقوق المرأة، كما تنبذ العنصرية والكراهية وتدعو إلى المساواة والتمسك بدين الله بإخلاص لا يشوبه شرك أو خرافة». وبين أن من أهم ما يستفاد منه في هذه الخطبة، تقوية الروابط الاجتماعية، وتأصيل القيم في نفس المؤمن، إذ ينبغي أن يتحلى بالأخلاق السامية التي تجعله قدوة لكافة أبناء العالم أجمع. ونوه بضرورة أن يحرص المرء على معرفة مثل هذه الحوادث العظيمة والنصوص الواردة فيها، خاصة وأنه ينتمي إلى الإسلام، وهذه من أبلغ الخطب الإسلامية التي ينبغي على المرء التعرف عليها. بليغة المعنى وقال الأمين العام المساعد لرابطة العالم الإسلامي الدكتور عادل الشدي: «إن خطبة النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة في حجة الوداع كانت بليغة عظيمة في معانيها ودلالاتها رغم قصرها، فقد اهتمت بالتوحيد الذي قامت عليه السموات والأرض، حيث بين النبي صلى الله عليه وسلم أن كل دماء الجاهلية موضوعة وبدأ في ذكر عمه العباس ليؤكد التساوي والعدالة بين جميع الناس». ونوه بما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم إذ إن «الناس سواسية لا فرق ولا فضل لأحد على آخر إلا بالتقوى، فمن كان لله أتقى كان منه أقرب». وقال: «بعد أن بين الرسول صلى الله عليه وسلم أهمية التوحيد وهدم معالم الشرك، أوضح حرمة البلد الحرام العظيم، مستخدما أسلوبا بلاغيا عظيما حينما سأل: «أي شهر هذا؟»، ثم قال: «أي يوم هذا؟ أي بلد هذا؟»، ثم قال لهم: «فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا»، مشددا على حرمة الدماء والأموال وأنه لا يجوز التعدي على شيء منها». وأضاف الشدي: «النبي صلى الله عليه وسلم أوصى بالمرأة وصية عظيمة إذ لا ينبغي لأحد بعد ذلك أن يفرط فيها، كما هو الحال بعد أن وصل بعض النساء إلى أروقة المحاكم نتيجة الظلم الممارس ضدهن من قبل البعض». معالم العدل والمساواة أما مدير عام الأوقاف والمساجد في جدة فهيد البرقي فلفت إلى أن خطبة النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع لم تكن لبناء الدولة فقط في ذلك الوقت، وإنما تراعي حتى المستقبل، فأرست معالم العدل والمساواة للبشرية في الحاضر والمستقبل. وأضاف: «نحن اليوم أحوج ما نكون لمعالم الخطبة ليقتدي بها المسلمون، خصوصا مع ما نشاهده من ظلم وطغيان واضح يرتكب في بعض بلاد المسلمين في أصقاع متعددة». وبين أن خطبة النبي صلى الله عليه وسلم كانت جامعة مانعة إذ تطرق فيها النبي صلى الله عليه وسلم لأهم الإشكاليات المجتمعية في ذلك الوقت في العقيدة والفكرة ووجوب الرجوع للكتاب والسنة في مطارحة القضايا الإسلامية الحالية، أما في الجانب السياسي فتطرق إلى التربية السياسية التي نحتاجها اليوم، وتطرق إلى نصرة المظلوم وواجب الحاكم والمحكوم، وإلى جانب الأخوة الإسلامية، وهدي السلف عند الاختلاف، والحوار بين بعضنا البعض، ومنهج ديننا في تقبل الآخر، أما في الجانب الاقتصادي فتطرق إلى الكسب الحلال وخطورة الغلول. دعائم لبناء الأمة الرئيس التنفيذي ل«اقرأ» الإنسانية ياسر محمد عبده يماني أوضح أن خطبة النبي صلى الله عليه وسلم كانت خلاصة لما أراد أن تكون عليه الأمة الإسلامية قائلا: «ما أجمل ما ورد في تلك الخطبة حينما كان النبي صلى الله عليه وسلم يردد أمام تلك الجموع الغفيرة بعد أن وقف على صعيد عرفات، بقوله: «ألا هل بلغت.. اللهم فاشهد». ولفت إلى العقلاء ينظرون لهذه الخطبة أنها دعائم لبناء الأمة ودستور لحياتها، ولهذا يعكفون على تحليلها ويدققون فيها ويتعمقون في فهم معانيها ويدرسون أبعادها، إذ كانت خطبة عظيمة، حدد فيها عليه الصلاة والسلام قضايا جوهرية عندما أحس باكتمال تبليغ الرسالة وقرب انتقاله إلى جوار ربه سبحانه وتعالى فرغب في هذه الخطبة بوضع توصيات جامعة تجسد تعليمات الدين، مطالبا المسلمين بالإنصات لما سيقوله: «أيها الناس اسمعوا قولي، فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدا». وتطرق إلى ما تناوله النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته إذ حرم سفك الدماء والقتل إلا المسموح به شرعا، وتحريم هتك الأعراض بالغيبة والنميمة والاعتداء على أموال المسلم بغير حق، فقال عليه الصلاة والسلام في الخطبة: «أيها الناس إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا وكحرمة شهركم هذا»، ثم أكد عليه الصلاة والسلام أن المؤمن سيسأل عن أعماله في الدنيا وسوف يحاسب عليها يوم تقوم الساعة فقال: «إنكم ستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم وقد بلغت»، كما حث صلى الله عليه وسلم على أداء الأمانات لأهلها وعدم خيانة المؤمن للأمانة التي اؤتمن عليها بقوله: «فمن عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها». ثم انتقل إلى قضية جوهرية أخرى، فحط الربا وحرمه، وجعله بين الأمة محرما والاكتفاء برأس المال في قوله: «وإن كل ربا موضوع ولكن لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون، قضى الله أن لا ربا، وإن ربا عباس بن عبدالمطلب موضوع كله». وتطرق يماني إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل هنالك فاصلا بين حياة الجاهلية ونعمة الإسلام، وحط تلك الأمور التي حكمت علاقات الناس في جاهلية عمياء كانت تتحكم فيها. وبين أن بعض ما يعانيه الناس هذه الأيام هي وساوس الشيطان فحذر النبي صلى الله عليه وسلم من مخاطر وساوس الشيطان الذي يتركز همه في صرف الناس عن عبادة الله إلى عبادة الشيطان، ويوسوس لهم ويضلهم عن سواء السبيل، فتأتي كلمات النبي صلى الله عليه وآله وسلم واضحة حينما قال: «أيها الناس: إن الشيطان قد يئس من أن يعبد بأرضكم هذه أبدا، ولكنه إن يطع فيما سوى ذلك فقد رضي به، مما تحقرون من أعمالكم فاحذروه». وتطرق إلى بعض مما جاء في الخطبة العصماء عن النبي صلى الله عليه وسلم إذ أوصى الرجال بالنساء خيرا ونبههم إلى ذلك العقد والعهد العظيم الذي استحلوا به فروج النساء، فهي مسؤولية عظيمة ولابد أن يتقوا الله في النساء، وأن يكرموهن، وأن لا يعتدوا عليهن، وأن لا يأكلوا أموالهن بالباطل، وهذا الدستور أعلنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في تلك المناسبة العظيمة، كتشريع من الله عز وجل، أوضح حقوق النساء وحفظ كرامتهن، فقال عليه السلام: «واستوصوا بالنساء خيرا فإنهن عندكم عوان لا يملكن لأنفسهن شيئا وإنكم إنما أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمات الله»، كما وازن عليه السلام في خطابه فوجه النسوة وحثهن على أداء واجباتهن تجاه أزواجهن بأن يتقين الله في كل شأن، وأن يبتعدن عن الفواحش، ما ظهر منها وما بطن، ثم أوضح لهن حقوق الزوج، والأمانة التي في أعناقهن بالنسبة لحقوق الأبناء والأسرة فجاءت الكلمات قوية: «فإن لكم على نسائكم حقا، ولهن عليكم حقا، عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه، وعليهن ألا يأتين بفاحشة مبينة، فإن فعلن، فإن الله أذن لكم أن تهجروهن في المضاجع، وتضربوهن ضربا غير مبرح، فإذا انتهين فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف». وزاد ياسر يماني بقوله: «أعلن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن الاعتصام إنما يكون بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، ووجه بالرجوع إليهما في كل الأمور حتى لا يضل المسلمون عن دينهم، وقال وهو يخطب في الناس: «وقد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدا، أمرا بيننا كتاب الله وسنة نبيه»، كما ركز صلى الله عليه وآله وسلم في خطبته على الأخوة الإسلامية ليعلم الأمة إلى يوم القيامة أن للمسلم على المسلم حقا وأن الأخوة في الدين تسمو فوق كل صلة، وأن على المسلم احترام ممتلكات أخيه وعدم أخذ شيء منها إلا برضاه». وخلص إلى أن خطبة الوداع، فيها من القيم العظيمة التي يجب أن يقف عندها كل مسلم ليتعلم منها الدروس التي علمها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للأمة إلى يوم القيامة.
نص خطبة الوداع
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِ الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله، أوصيكم عباد الله بتقوى الله، وأحثكم على طاعته، وأستفتح بالذي هو خير.. أما بعد، أيها الناس، اسمعوا مني أبين لكم فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا في موقفي هذا، أيها الناس إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، وإنكم ستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم وقد بلغت، فمن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها، وإن كل ربا موضوع ولكن لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون وقضى الله أنه لا ربا، وإن ربا عمي العباس بن عبدالمطلب موضوع كله، وإن كل دم في الجاهلية موضوع، وإن أول دمائكم أضع دم عامر ابن ربيعة بن الحارث بن عبدالمطلب، فهو أول ما أبدأ به من دماء الجاهلية، وإن مآثر الجاهلية موضوعة غير السدانة والسقاية والعمد قود، وشبه العمد ما قتل بالعصا والحجر وفيه مئة بعير، فمن ازداد فهو من الجاهلية، أما بعد: أيها الناس فإن الشيطان قد يئس من أن يعبد بأرضكم هذه أبدا، ولكنه إن يطع فيما سوى ذلك فقد رضي به بما تحتقرون من أعمالكم فاحذروه على دينكم، أيها الناس (إنما النسيء زيادة في الكفر يُضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله)، إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض (إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا)، منها أربعة حرم ثلاثة متوالية ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان، أما بعد أيها الناس، إن لنسائكم عليكم حقا ولكم عليهن حق، لكم عليهن ألا يوطئن فرشكم غيركم، ولا يدخلن أحدا تكرهونه بيوتكم، ولا يأتين بفاحشة، فإن فعلن فإن الله قد أذن لكم أن تهجروهن في المضاجع وتضربوهن ضربا غير مبرح، فإن انتهين فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف، واستوصوا بالنساء خيرا، فإنهن عندكم عوان لا يملكون لأنفسهن شيئا، وإنكم لما أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمات الله فاعقلوا أيها الناس قولي، أيها الناس إنما المؤمنون إخوة، فلا يحل لامرئ مال أخيه إلا عن طيب نفس منه، ألا هل بلغت اللهم اشهد، فلا ترجعن بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض فإني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا بعده، كتاب الله وسنة نبيه، ألا هل بلغت اللهم اشهد، أيها الناس إن ربكم واحد وإن أباكم واحد، كلكم لآدم، وآدم من تراب، إن أكرمكم عند الله أتقاكم وليس لعربي فضل على عجمي إلا بالتقوى، ألا هل بلغت اللهم اشهد. قالوا: نعم، قال: فليبلغ الشاهد الغائب.