كان المشهد دالا وموحيا، في مبنى هيئة الاستثمار، التي يتخذها الدكتور حازم الببلاوي رئيس الوزراء المصري مقرا مؤقتا لحكومته، بدلا من المقر القديم بشارع القصر العيني بوسط القاهرة، الطابق المخصص للدكتور الببلاوي، يتحول في وجود هذا الرجل السبعيني، إلى ما يشبه خلية النحل، ملفات تذهب وتجيء، في أيدي كبار المسؤولين، وزراء يتوافدون على المبنى يلتقون بزملائهم المغادرين للمكان. في أثناء انتظار «عكاظ» في أحد الصالونات المخصصة لضيوف رئيس الوزراء، مر علينا الدكتور حازم، وهو في طريقه إلى مكتبه، بعدما قطع اجتماعا مع المهندس إبراهيم محلب وزير الإسكان، والمهندس إبراهيم الدميري وزير النقل والمواصلات، لمناقشة مشروع تنمية قناة السويس، رحب بنا الدكتور حازم قائلا: أهلا بكم.. ولكن لا يوجد لدينا شعر أو نثر لنقوله في «سوق عكاظ».. دقائق وسأكون معكم وعاد إلى اجتماعه مرة أخرى. يعرف ويقدر الدكتور الببلاوي، حجم المسؤوليات الملقاة على عاتق حكومة ثورة 03 يونيو، وهو بطبيعته الشخصية مفكر أكثر منه متحدثا، زاهد في الظهور على قنوات التلفزيون، لا يتحدث للصحف إلا قليلا، ربما كان هذا السر، وراء تحديد موعدنا معه بنصف ساعة فقط، ولكن بمعاونة صادقة من مستشاره الإعلامي الدكتور شريف شوقي، نجحنا في الحصول على ساعة ونصف الساعة من الحوار. المفكر الاقتصادي الدكتور حازم الببلاوي، لا يفضل أن يخوض في الموضوعات السياسية، وإذا تطرق لها سرعان ما يعود إلى قضاياه المفضلة الأوضاع الاقتصادية، تخصصه الأصيل، ومجال كتاباته ومؤلفاته، وإذا تحدثت معه في هذا الشأن كن حذرا لأنه سوف يرد عليك بالمثل الشعبي المصري «لا تبيع المياه في حارة السقايين».. لا يخشى رئيس الوزراء الخوض في السياسية مع الصحافة، إلا من باب الخوف من التأويل فقط، ويعتب على من يدعي أن حكومته «مرتعشة الأيدي» ويشعر بعدم الإنصاف والغبن، كلما سمع من يزعم غياب قضية العدالة الاجتماعية عن جدول أعمال حكومته. يعرف رئيس وزراء مصر، أنه يعمل في أجواء صعبة وظروف غير مواتية للنجاح، ولكنه يرى أنه ووزراءه، قادرون على التحدي وتجاوز الصعاب، من خلال رؤية اقتصادية واضحة ومتكاملة تسير عليها حكومته، وتهتدي بها الحكومات المقبلة، ويرى أيضا أن الحكومة.. أي حكومة تستمد قوتها من ثقة الناس فيها وبها. العديد من المحاور والمساحات الشائكة، تناولتها «عكاظ» في حوارها الشامل مع رئيس وزراء مصر، الذي لم يقل شعرا أو نثرا، وإنما كانت حقائق وأرقاما وإجابات واضحة لا مجال للمراوغات، مع رجل يقدر قيمة الأرقام والقانون، وهو ما تجلى لنا في اتصالين هاتفيين، تلقاهما الدكتور حازم الببلاوي، أثناء حواره مع «عكاظ» أحدهما على هاتفه المحمول، والآخر على هاتف المكتب الخاص الذي يربطه بكبار المسؤولين في الدولة، وكان يتعلق ب «الحكم الصادر بحظر جماعة الإخوان».. وإلى تفاصيل الجزء الاول من الحوار: • دولة رئيس الوزراء، كيف تنظرون إلى زيارة الرئيس للمملكة؟ وما هي دلالات أن تكون هي الدولة الأولى في أول جولة خليجية في أول تحرك خارجي للرئيس؟ سوف تكون تعبيرا عن الشكر لما قدمته المملكة وتقديرا للقيادة وللشعب السعودي على موقفه الداعم لمصر، ومصر لن تنسى أبدا دور دول الخليج الداعم في هذه الأوقات الحساسة والدقيقة، وهو شكر موجه إلى الصديق والأخ الذي وقف معنا في وقت الشدة. • ماذا تتوقعون من نتائج هذه الزيارة على صعيد تعزيز العلاقات الثنائية؟ وفيما يتعلق بتفعيل التنسيق المصري السعودي لصالح العمل العربي المشترك؟ أتوقع أنها ستساهم في تعزيز التقارب المصري السعودي والخليجي بصفة عامة، والذي أرى أنه يزداد عمقا ويتجه إلى النضج والتطور، وهو ما حدث في الجهود التي بذلت على الصعيد الخارجي، بما أسهم في فهم الدول الغربية لحقيقة 30 يونيو. مصر بخير • نود أن نطمئن على مصر، أين تقف الآن وما الخطوة التالية؟ مصر بخير، على الرغم من أنها تمر بفترة عصيبة منذ 25 يناير 2011، نعم كانت هذه الفترة قلقة ومضطربة، وطبعا ازدادت الأمور صعوبة في السنة الأخيرة، وحتى بعد ثورة 30 يونيو، ولكن في الوقت الراهن هناك العديد من الأشياء التي تدعو إلى الاطمئنان، بالرغم أنه مر على الثورة عامان ونصف، اختلت فيها كثير من الموازين، منها الانفلات الأمني، والتراجع الاقتصادي، والاضطربات السياسية، ومع ذلك وإلى حد كبير البلد «متماسكة»، الناس كانت تعرف من قبل أن الاقتصاد المصري يعاني من أوجه ضعف كثيرة، ولكن مر على البلد عامان، في ظل ظروف خروج بعض رؤوس الأموال، وانخفاض معدلات الإشغالات السياحية، وتوقف ضخ الاستثمارات المحلية والأجنبية، وانخافض الاحتياطي النقدي في البنك المركزي، واعتقاد بعض المستثمرين أن الأوضاع ستكون أسوأ من ذلك، وبالرغم من هذه الصعوبات مجتمعة، أثبت الاقتصاد المصري، أنه يمتلك درجة من المناعة، لم يكن أحد يتصورها من الاقتصاديين، سواء في الداخل والخارج. في الفترة الأخيرة، بعد 30 يونيو، شهدت البلاد أشياء أخرى مع التغيرات السياسية، تجاوزات أمنية، بل تطورت الأمور إلى ما هو أصعب، عمليات تخريبية وإرهابية منظمة، وعمليات ترويع للمواطنين، كل ذلك زاد من ضبابية المشهد السياسي، وفي الإجمال كل هذه الأمور تجعل الإنسان غير سعيد. ولكن في الفترة القصيرة الماضية، التي لا تتجاوز شهرين ونصف الشهر، شهدت البلاد مناخا مختلفا، يدعو إلى الاطمئنان، والأمور بدأت تأخذ طريقها إلى الاستقرار، الدولة بدأت تستعيد هيبتها، الناس في الشارع بدأت تشعر بأن الدولة قادرة وحازمة، هذا على الصعيد الأمني، أما على المسار السياسي الدولة ماضية قدما في تنفيذ خارطة الطريق، تشكلت لجنة الخمسين وتمارس عملها بشكل جيد وتناقش مواد الدستور بكل شفافية، الحكومة بدأت تصنع أشياء جيدة للناس، واستقرت الأمور وبدأت تعمل بشكل سليم، وعلى الرغم من أن الوضع يحتاج إلى كثير من الانضباط المالي في أوجه الإنفاق في ظروف العجز الكبير، إلا أنها لم تلتزم بسياسية تقشفية، بدأنا في ضخ استثمارات جديدة في عدد من المشروعات، التي تم اختيارها بعناية، وخاصة المشروعات كثيفة العمالة، لتنشيط الوضع ولتحجيم البطالة، وهذا كله لرفع نبرة التفاؤل لدى المواطن. وفي الحقيقة من أهم العناصر التي ساعدت على ذلك الدعم الخليجي، الذي جاء إلى مصر، من السعودية والكويت والإمارات والبحرين، وهو دعم حقيقى وجاد وواضح وصادق، هذا الدعم جاء منه جزء عاجل، وهناك أيضا أفكار للعديد من المشروعات العاجلة وهناك رؤية لمشروعات مستقبلية، ترتب على ذلك مؤشرات تعطي دلائل تفاؤل، منها الاحتياطي النقدي، بعدما انخفض إلى ما يقل عن 13 مليار دولار اقترب الآن من 20 مليارا، وميزان المدفوعات يحقق فائضا لأول مرة، وسعر الصرف «مش مستقر فقط ولكنه يتحسن»، والبورصة في ارتفاع مستمر، والسياحة بدأت تعود مرة أخرى، والسياحة أهميتها ليست قاصرة على ما يأتي منها في شكل عوائد مالية، وإنما تمثل رؤية الآخر لك. هل فيه أمن أم لا، وبدأت الدول تخفف من حظر السفر إلى مصر وترفعه عن مواطنيها. مؤشرات ودلالات • هل يعني ذلك أن الأمور استقرت بشكل نهائي؟ لا، هناك العديد من الخطوات، وما ذكرته سابقا يندرج تحت صورة المؤشرات التي تعطى دلالات، ومن الخطوات المطلوبة، الأمن ما زال بحاجة لمزيد من الانضباط، وهناك مخاوف من جماعات من الواضح أنها غير متعاونة، وتحاول أن تزيد من الارتباك في البلد، لكن الأكيد حتى الآن أن الدولة تكسب يوميا مزيدا من استعادة هيبتها، وتسير بخطى ثابتة وتثبت أقدامها بحزم، أنا شخصيا أرى أننا مررنا بفترة مخاض صعبة. تجاوز مرحلة الخاض • وبعد فترة المخاض الصعب.. هل تجاوزت مصر مرحلة الارتباك؟ لم نتجاوز بالمعنى الكامل، ولكن قطعنا الطريق الأطول والأصعب، في مشوار الاستقرار، الأمور ميسرة حتى الآن، ولكن مظاهرات الطرف الآخر موجودة، صحيح أنها تقل والناس في الشارع تقابلها بعدم رضا شديد، والتعاطف مع الجماعة الداعية لتلك المظاهرات يتناقص ويتآكل. أما على الجانب العملي، الحكومة مهتمة بخطط برامج طويلة الأجل، وزيادة الاستثمارات وتحسين المناخ الاقتصادي لتعيد لمصر لمكانها الطبيعي، ومع ذلك نولي جانبا من تركيزنا على احتياجات الناس، ومطالبهم الضرورية التي تشغلنا، وبصفة خاصة الناس الأكثر احتياجا، وسعينا بكل جهد لتطبيق الحد الأدنى من الأجور. لن أستقيل • هل نفهم من ذلك أنك لن تستقيل مثلما فعلت حين كنت نائبا لرئيس الوزراء في حكومة عصام شرف؟ في المرة الأولى كنت عضوا في حكومة الدكتور عصام شرف، وقدمت استقالتي، وطلب مني الاستمرار، حتى استقالت الحكومة، وكان دافعي للاستقالة هو أن الناس بدأت تفقد ثقتها في الحكومة، وأي حكومة تستمد قوتها من ثقة الناس فيها، أما عند تشكيل الحكومة الحالية، فقد طلب مني تشكيل الحكومة، ووافقت لأن البلد في حاجة لجهود كل أبنائها. المسألة ليست سهلة • البعض يتساءل عن دور وزارة العدالة الانتقالية بالتحديد؟ أرجو أن يكون الناس أكثر صبرا على وزارة العدالة الانتقالية، لأننا في مرحلة وضع أطر لهذه الوزارة التي تشكلت لأول مرة، ومن الممكن أنت كمسؤول جدا تصنع ضوضاء ولكن دون أي نتيجة، ووزارة العدالة الانتقالية عنصر ودورها مرتبط بأجهزة أخرى في الدولة بأكملها مثل وزارة الداخلية والتضامن الاجتماعي والمجلس القومي لحقوق الإنسان وغيرها من الجهات. العدالة الانتقالية مسألة ليست سهلة، بل هي عملية تحتاج إلى مراحل، وإلى تعاون أكثر من جهاز في الدولة، وإذا تكلمنا عن التصالح والمصالحة، ستجد هناك كثيرين يقولون لك لا نقبل التصالح، المسألة تحتاج المضي قدما بخطوات ثابتة ومتروية، وأن نقدم أيدينا إلى الجميع، بلا إقصاء، لكن أيضا بما يظهر أننا لا نريد أن نتعاون مع من تلوثت أيديهم بالدماء، ومن يفرقون بين الأديان، ولا يريدون التعايش مع الآخرين، والحكومة مدركة تماما أنه في ظل هذه الصعوبات الجمة، الحل لن يكون أمنيا فقط، ولكن من الضروري أن يكون معه مسار سياسي وهذا المسار لن يتسنى السير فيه برغبة الحكومة فقط، ولكن برغبة الشعب أيضا. المشكلة مع الإخوان • هل المشكلة في إنكار الطرف الآخر «جماعة الإخوان» للواقع؟ أنا أرى أن الجانب الآخر في مأزق، والمأزق يزداد صعوبة، لأنه في الوقت الذي كاد فيه يشعر بأنه كسب كل شيء، فقد أو خسر كل شيء، من المؤكد أنهم في حالة عدم توازن، وأي اعتراف بالواقع بالنسبة لهم يمثل تنازلا، مما يضطرهم للتشدد والبعد أكثر عن الواقعية، أفهم ردود فعلهم التي تحتوي على قدر كبير من إنكار الواقع، القيادات لا تستطيع التراجع بسهولة، والقاعدة تريد من يوجهها، نحن أمام طرف في حالة أقرب إلى اليأس، واليائس لا يتمتع بأي درجة من العقلانية ومستعد أن يفعل أي شىء. • ولكن إلى متى يا دولة الرئيس سوف يستمر هذا الوضع، المشكلة الآن أصبحت مشكلة وطن؟ المشكلة تتطلب أن يكون الجميع صدره متسعا، الحكومة ومعارضوها، وأنا عندما أقول إن الدولة يجب أن تكون أكثر تسامحا، لأنها الطرف الأقوى، والتسامح ليس معناه التفريط، مع من خرب أو دمر. لجنة للمسار الديمقراطي • معالي رئيس الوزراء، قدم نائبكم الدكتور زياد بهاء الدين مبادرة للمصالحة وتم تغييرها لتصبح برنامج الحكومة للمسار الديمقراطي.. أين المبادرة الآن؟ أولا أنا فهمي الشخصي للمصالحة، أنها ليست حديثا عن الماضي بقدر ما هي حديث عن المستقبل، ونحن نريد بناء مجتمع ديمقراطي مدني، نريد أن يشارك الكل فيه، ولا يشعر أحد بالإقصاء، طالما أنه لم يرتكب جرائم، ومن خالف القانون لابد أن يعاقب، ولكن المصالحة تعني مشاركة الجميع في البناء الديمقراطي، ولذلك فإن مجلس الوزراء حينما عرض برنامجا كان تحت عنوان برنامج الحكومة لحماية المسار الديمقراطي، وتضمن هذا البرنامج 11 محورا يشارك فيه الجميع، بشرط الموافقة على جميع البنود التي تنص على عدم الإقصاء من الحياة السياسية، وشرط التوافق على مجموعة من المبادئ، واستكمال خارطة الطريق المعلنة، وتوفير الأمن، ومكافحة العنف والإرهاب، وبناء المؤسسات اللازمة لإقامة الديمقراطية، ومنها إعادة تشكيل المجلس القومي لحقوق الإنسان والمجلس القومي للمرأة والمجلس القومي للعدالة والمساواة، وإلغاء حالة الطوارئ في الوقت المناسب، وحرية التظاهر، وتنظيم الانتخابات، والإشراف الدولي عليها، واحترام الحقوق والحريات، والتصدي لأشكال التعرض لدور العبادة وغيرها من المحاور التي أعلنت عنها الحكومة، وشكلنا مجموعة عمل من الحكومة والرئاسة وبعض الشخصيات العامة، لحماية المسار الديمقراطي، والحديث عن المصالحة لا يعني العفو عن شخص ما، ومن يلتزم بكل المبادئ السابقة فهو مرحب به في العملية السياسية، بشرط أن الجميع يتسع صدره وهذا يشمل الدولة ومعارضيها، الدولة أكثر تسامحا بما لا يعني التساهل، لكن ليس مع يخرب أو يدمر أو يسفك الدماء، ونحن شكلنا لجنة مكونة من 6 أعضاء، عضوان يمثلان مؤسة الرئاسة، وعضوان يمثلان الحكومة، وعضوان من الشخصيات العامة، واللجنة شكلت قريبا والشخصيات العامة بدأت تجري اتصالاتها .