هناك ليس بعيدا وفي عالمنا هذا.. ثمة من ينام دون خبز أو ماء.. ينام ولا ينام.. يأكل ولا يأكل.. يعيش ولا يعيش.. الليل سترا لهم والنهار يكشف عوراتهم، هذه هي الحال بل وأكثر من ذلك، في مخيم اللاجئين السوريين في باب الهوى على الحدود التركية السورية. نعم.. على الحدود التركية السورية مأساة إنسانية تستحق أن تكون قصة ورواية تراجيديا عالمية.. ربما يذهل المرء منا لسماع مثل هذه الكلمات، إلا أنها حقا موجودة في عالمنا.. وليس بعيدا إنها في سوريا. ينام المرء كل يوم إلى جانب أبنائه .. دون أن يدرك أنه في نعمة يغبطه عليها الكثير، الأمن والأمان وقلة السؤال، كل هذا يحتاجه اللاجئ السوري في مخيمات باب الهوى.. لقد عاث نظام الأسد بكل نفوس السوريين عبثا، قتلهم .. دمر بيوتهم، قضى على آمالهم وأحلامهم.. وشردهم. ارتديت زي الجيش الحر، حتى أكون أكثر قبولا بين اللاجئين الذين يقدسون هذا الزي، ويعتبرونه زي الشرف والكرامة. «عكاظ» تجولت في مخيمات اللاجئين وتلمست همومهم، لتنقل الصورة كما عاشتها بين الأطفال والمسنين والمشردين من بيوتهم، بل ربما خانتها الكلمات والتعبير في وصف ما يجري هناك من ذل يندى له جبين الإنسانية.. فإلى تفاصيل جولتنا في مخيمات باب الهوى. خيم موضوع الضربة الأمريكية على مواقع للنظام السوري، إثر استخدامه للكيماوي في الغوطة الشرقية على حديث السوريين، أينما كانوا: وللاجئين السوريين على قرب معبر باب الهوى رأي مختلف عما يقال في هذه الضربة المرتقبة. جل اهتمام اللاجئين في هذه الأيام.. كيف نأكل اليوم.. كيف ننام.. كيف سيعيش أطفالنا.. أما الضربة فهي السراب الذي لا يقدم لنا شيئا. تقدم مسن إلينا وقال: هل فعلا تصدقون أمريكا.. أنا لا أفهم كثيرا بالسياسة.. لكن عمري يخولني بالحديث عن معرفتي بأمريكا.. إنهم لا يصدقون إلا مع أنفسهم ولا يقدمون للآخر شيئا دون ثمن.. والضربة المزعومة ليست في حساباتهم، أما نحن في مخيمات اللجوء فالأمر لا يعنينا نريد من يوفر لنا قوتنا .. ذلك أفضل من الوعود الكاذبة. هذا الرأي، يجمع عليه كل من قابلتهم «عكاظ» في المخيم، وتقول أم مصطفى النازحة مع أحفادها: لو تقدم لنا أمريكا ثمن الصواريخ كمساعدات أفضل من هذه القرقعة.. فمادامت تريد الضربة المحدودة فالأمر لن يتغير.. لقد تعبنا من الوعود.. وحقيقة لم تعد تعنينا. إلغاء بشار من المخيمات انتهى الحديث عن آمال الضربة، لننتقل إلى واقع الحياة ومآسي اللاجئين، أبو بشار الذي ينوي تغيير اسم ولده البكر بشار إلى حوران، يروي كيف خرجوا من قريته في حماة (القسطون)، ويقول تصور أن قرية صغيرة تتحمل 45 برميلا متفجرا من البارود و11 طلعة طيران ميغ في اليوم الواحد. ويضيف: خرجنا من قريتنا والطيران فوق رؤوسنا والقذائف الحاقدة في كل مكان، ولم يعد للحياة معنى في هذه القرية فقد باتت حمما. وبدأت موجات النزوح يوميا على مدار أسبوع من القصف.. وماتزال الحالة على ما هي عليه.. ونحن نتوق شوقا إلى بيوتنا التي بنيناها بأيدينا، فاللجوء الذي بات صفة من صفات الإنسان السوري أسوأ بالجحيم. أبو (حوران) الذي كان يعمل في الأردن، ترك عمله الذي كان يدر عليه مالا جيدا، والتحق بالثوار وبترت ساقه بعد إحدى المعارك الضارية مع قوات الأسد في القسطون. يشكو القلة في كل شيء، فلا الخيمة باتت تسع عائلته التي تتألف من 8 أشخاص ولا كميات المساعدات التي يقول إنه لا يراها تكفيه وعائلته. ثمانية أشهر من اللجوء ولا شيء يتغير في المخيمات، كل يوم يتجمع ساكنو هذا المخيم ويتبادلون أحاديث العودة إلى بيوتهم التي لم تعد قابلة للسكن، إلا أنها وكما يقولون أفضل من ذل التشرد والمخيم اللعين، إلا أن هذه الأحاديث يبدو أنها ستطول بينهم، بتردد المجتمع الدولي وتخاذله في حسم الأزمة. صمود مدهش وإصرار على الحياة مذهل أظهره أبو حوران في جولة «عكاظ»، بين المخيمات، فعلى الرغم من الحال السيئة والمزرية التي يعيشها وأفراد أسرته (وهذا حال الكل)، إلا أنه مستعد لتحمل كل المآسي حتى يسقط نظام الأسد. «عكاظ» سألته، لست نادما على العودة إلى سوريا وترك عملك في الأردن، وحالك الآن ما وصلت إليه من تشرد وحاجة، فأجاب بصوت عال تتخلله نبرة الكبرياء، لو قطعوا كل جسدي لست نادما، فأنا أصبت في ساقي وعجزت عن الحركة، لكن اثنين من أبنائي الآن على جبهات القتال، ويضيف: لقد نذرنا أولادنا وحياتنا من أجل تحرير سوريا من حكم الطغاة.. حتى لو بقينا في هذه المخيمات سنين.. لن نتراجع عن ثورتنا التي باتت عزنا. مخيمات الحاجة وعن احتياجات اللاجئين في المخيم (باب الهوي) .. فالحديث يطول ويطول جدا .. فلا شيء يذكر في هذه المخيمات، سوى الغطاء من عورة الشارع وخيوط الشمس الحارقة وغبار الطرقات.. فالأزمة تتسع يوما بعد يوم والمساعدات لم تعد تغطي. خلال الحديث مع اللاجئين، تقاطر الكثير من سكان المخيم حيث تجول عكاظ، وجاء طفل مسرعا ظن أن ثمة مساعدات وصلت إلى المخيم ليأخذ حصته، وسألني «عمو شو جبتو لنا» .. وتابع .. أمس لم نأكل وأرسلتني أمي لنأخذ نصيبنا من الطعام.. وعندما نهره أحدهم وقال له هذه ليست مساعدات، هؤلاء صحفيون «اغرورقت عيناه بالدموع» وعاد إلى خيمته، كان ذلك أصعب المواقف التي مررت بها خلال جولتي. تقول أم محمود «والله لم نعد نأكل سوى الخبز والماء».. الكل يتخلى عنا .. والحرب تطول دون أمل بالوصول إلى نهاية، لقد اقتصرت المساعدات على الخبز فقط.. وعلينا أن نتدبر أمرنا.. وزوجي مصاب بالشلل وأولادي صغار لا طاقة لهم بالعمل.. فأين أذهب.. وتتابع «نحن السوريين أهل الخير.. هيك يصير فينا».. أين العالم أين العرب أين المسلمون.. هل عجزوا عن إطعامنا.. لو كل مسلم شعر بمأساتنا لما كان هذا حالنا.. وأنهت حديثها بمناشدة العالم النظر إلى أحوالهم البائسة. لك أن تتصور بدون الاستخدام المفرط لعبارات المآسي، أن ثلاث عائلات تسكن في خيمة واحدة، حقا إنها ليست مبالغة أو استدرار للمشاعر البشرية، هذه حقيقة واقعة في مخيمات باب الهوى، هذه الغرفة عبارة عن مكان لتناول الوجبات ومطبخ وحمام بالقوة الجبرية.. فقد رأيت سوريا في هذه الخيمة بكل مآسيها وصمودها وحميميتها، الكل يتفانى من أجل راحة الآخر في هذه الخيمة. أم مصطفى تلك المرأة المبتسمة رغم الفواجع، ابتسمت في وجهي حين دخلت إلى خيمتها، وقالت لن أقول أية كلمة، لكن أريد منك أن تتأمل كيف نعيش في هذه الخيمة، إنها كل ما نملك من سوريا، لم يعد لنا في هذا الوطن سوى هذه الخيمة، حتى هذه الخيمة ليست ملكنا، وأخبرنا مالكها أن قريته تعرضت للقصف وأنه سيعود لذلك يريد خيمته، أما نحن فالله يعلم أين سننتشر بعد عودة صاحب الخيمة.. متابعة: البركة في الخيم الأخرى. عزة نفس أم مصطفى منعتها من الاسترسال بقائمة الاحتياجات اليومية، وقالت باختصار: استقبلنا العراقيين في بيوتنا خلال حربهم.. وعاش اللبنانيون في بيوتنا خلال حربهم.. ولم ننصب خيمة واحدة لأكثر من مليون عراقي و 300 ألف لبناني .. أما السوريون فما لهم إلا المخيمات.. أين إخوتنا في الدين والعروبة.. إذا كان الأسد ظالما فهل يتخلى عنا الآخرون. وخلال الحديث تدخلت فتاة لا تتجاوز العشرين من عمرها، وتحدثت والدمعة تذرف من عينيها وقالت «نحن شابات في هذا المخيم لم نتمكن من الاستحمام منذ عشرين يوما.. إنها معاناة نعيشها بكل أبعادها.. ولن يتخيلها العقل البشري..حتى عبادتنا باتت صعبة علينا.. ضاقت بنا الحال من هذه الحرب.. هل من مغيث». واصلت «عكاظ» جولتها في المخيم وتعمدت أن تكون الجولة في وقت الغداء، حتى تطلع على وجبات المخيمات، وحين الدخول إلى إحدى الخيم وجدنا عائلة من 9 أشخاص، يتحلقون مع أبيهم حول طبقين من الفاصولياء، وخلال تناولهم وجبة الغداء دار حديثنا مع رب الأسرة، الذي قدم لنا بكل سخاء طبقا قائلا «أنتم ضيوفنا». قصة الوجبة الواحدة يقسم أبو حسين أنه يأكل وأولاده السبعة وجبة واحدة في وقت الظهيرة، هذه الوجبة هي الأولى والأخيرة في اليوم وهي الخبز وصحن الفاصولياء، ويجبر أولاده على الأكل بكثرة حتى لا يتسلل الجوع إلى بطونهم بقية النهار، فإذا جاع أحدهم فما من شيء يقدمه، أو يذهب إلى الخيم الأخرى.. ويضيف: نحن نعيش على هذه الحال منذ شهر تقريبا، إذ توقفت المساعدات ولم تعد كما كانت في السابق، فالكل يتحدث عن سقوط النظام وجبهات القتال، أما اللاجئون السوريون في مخيماتهم فقد غابوا عن دائرة الاهتمام الدولي. وانهال أبو حسين على المعارضة السورية بالشتائم، وقال طوال سنتين في هذه المخيمات لم نجد من يواسينا على الأقل من المعارضة السياسية. وأضاف حتى منظمات الإغاثة الدولية، تقدم لنا اليسير من المعونات، وكل يوم نسمع في نشرات الأخبار عن قوافل المعونات للاجئين السوريين، إلا أننا لا نراها.. لقد طالت الحرب وكل يوم نعيش في هذه المخيمات في أسوأ الحالات.. لقد كبر أولادنا في المخيمات.. وباتت أكبر همومنا هو كيف نؤمن وجبة الغد..وصل السوريون إلى هذا المستوى من العيش. وقال متحسرا.. الأطفال الآن يتوجهون إلى المدارس، إلا الأطفال السوريين يفكرون في وجبة اليوم التالي.. هذا هو حالنا الآن. المعركة مع الجنرال شتاء لم تنته بعد هواجس اللاجئين في مخيمات اللجوء، وما سردناه غيض من فيض، فالمعركة الكبرى ستكون مع شتاء الجبال القاسي.. إنه «الجنرال شتاء» الذي يخشاه السوريون في أيام الأمن وفي بيوتهم المهيأة للشتاء، فكيف في المخيمات التي لا تملك مقومات الحياة. وتقول سميرة وهي فتاة في الثامنة عشرة من عمرها، لا نعرف ماذا سنفعل في فصل الشتاء، فكل ما في المخيم هو الخيمة ولا شيء أكثر، ونحن الآن في حالة من القلق مع مجيء الشتاء، خصوصا على الأطفال، فالوقود ليس متوفرا، وإن توفر فأسعاره لا تسمح لنا بالشراء على الإطلاق.. وأملنا أن تنتهي الحرب قبل مجيء الشتاء للعودة إلى بيوتنا.. وتتابع .. لكن لا أتوقع. خلال الحديث عن الشتاء، أجهش العم «أبو عمر بالبكاء» .. فحاولنا التقاط صورة هذا المشهد المؤثر والمبكي، إلا أن العم أبو عمر قال .. أرجوكم التصوير لا يليق بمسن مثلي أن تكون صورته على الصحف..لقد فرضت علينا هذه الحياة.. لكن لا نريد أن نكون «فرجة» للعالم. وسألنا العم أبو عمر لماذا بكيت .. فقال في الشتاء الماضي عشنا أنا وأفراد أسرتي مع أسر أبنائي الذين يقاتلون في الجيش الحر أياما قاسية، حتى أن حفيدي وائل في الرابعة من عمره توفي في أحد الأيام القاسية في شهر (فبراير) من شدة البرد، ولم يتمكن أحد من إنقاذه..وعندما سمعت بالحديث عن الشتاء استعادت ذاكرتي مشهد موت حفيدي بين يدي وهو ينازع من البرد. ودعنا مخيم اللاجئين في باب الهوي.. وفي داخل كل لاجئ سوري أمل على أن تثمر الصور التي التقطت لهذا المخيم في دفعة من المساعدات الإنسانية، البعض كتم هذا الأمل في داخله، ربما عزة النفس وربما فقدان الأمل من أن تكون جولة صحفية تفيد في انفراج جزء من الهم.. والبعض الآخر قالها في اللحظات الأخيرة.. هل ستساعدوننا يا أخي .. فكان هذا السؤال من أصعب ما واجهته في رحلة الأراضي المحررة، وأصعب من الوقوف على خط الجبهة الأول في صلاح الدين والأشرفية. واجهته بخجل نحن صحافة مهمتنا النشر وإيصال صوتكم للعالم.. فجاءني الجواب بابتسامة صفراء يائسة .. أردفتها كلمة .. الله معكم. لقد تركنا مخيما تعيش فيه ملحمة من المأساة.. تركنا وراء ظهورنا أطفالا ونساء وشيوخا يعيشون على الأمل المفقود والضائع في نهاية الحرب.. وتحقيق حلم العودة حتى إلى البيت المدمر.