كل الحديث الذي يدور عن اللاجئين السوريين والمهجرين قسرا من منازلهم يتمحور عن هؤلاء الموجودين في مخيمات تركيا وعمان ولبنان، إلا أن هذا الحديث غاب عن أن هناك لاجئين سوريين داخل وطنهم بالرغم من أن عددهم يفوق بأضعاف وأضعاف عدد اللاجئين خارج الحدود السورية. خلال جولتنا داخل الأراضي السورية، كانت أمامنا مهمة زيارة مخيمات النازحين في الداخل.. وتحديدا تلك الموجودة على امتداد القرى المنتشرة في الريف الغربي لإدلب من أريحا جنوبا وحتى حارم شمالا. لم نترك لمرافقينا فرصة توجيه المسار على اعتبار أننا نتحرى الدقة في استقصائنا عن الظروف التي يعيشها الأهالي بعد واحد وعشرين شهرا من اندلاع شرارة الثورة. انطلقنا نحو مخيم الحمزية بعد سؤال الأهالي في مدينة سلقين وبلدات الزعلانة والعلاني والتلول عن مكان تجمع النازحين. استغرق الوقت مسيرة نحو نصف ساعة بالسيارة لنصل بلدة الحمزية إلى الشمال الشرقي من سلقين على مسافة تقدر بنحو ثلاثين كيلو مترا، وكانت المفاجأة مدرسة على طرف البلدة تم تحويلها إلى مخيم للنازحين من القرى الشرقية في إدلب يقطنه نساء وأطفال فحسب، صغار ضربت شمس أول الشتاء سحناتهم فبدت متوردة مختلطة بسمرة الوجوه. الوكيل عن المخيم رفض استقبالنا بادئ الأمر، ورفع صوته عاليا طالبا منا عدم الدخول من البوابة الحديدية التي كانت مفتوحة بشكل موارب سألته عن السبب قال: لقد عرفناكم جيدا أنتم السياسيون تأتون لالتقاط الصور مع نسائنا وأطفالنا ثم تغادرون بالوعود.. نحن لسنا حديقة حيوانات يزورها السياح ليتصوروا فيها ويستمتعوا بصورة من فيها يتابع بحرقة لقد سئمنا، دعونا لمصيرنا. بينما نحن في جدل معه، تجمع من حولنا عشرات الأطفال الذين أغراهم وجود آله تصوير تقوم بالتقاط صورهم وهم يرتعون في باحات المدرسة وأمام أسوارها من الأسلاك المعدنية، عرفنا عن أنفسنا بأننا لسنا سياسيين وأننا صحفيون جئنا لنرصد معاناة هؤلاء الناس وننقلها، وأن هذه المهمة هي ضرورة لكي يعرف العالم ما يجري في هذا المكان وغيره من المواقع التي تؤوي آلاف النازحين والمشردين. وافق وكيل المخيم على دخولنا بامتعاض وبدا مقتنعا بعض الشيء مشترطا أن ننقل ما يقول. سألناه عن عدد النازحين داخل المخيم وظروفهم، فأجاب أن هناك نحو خمسمائة نازح، تسعون بالمئة منهم من الأطفال والباقي من النساء، وبالفعل لم نلحظ وجود شبان أو رجال داخل المخيم. ويضيف: «كما ترون نحن نعاني قلة الطعام والدواء والملبس والتدفئة وحتى البطانيات، ليس هناك ما يسد أدنى مستوى من الحاجة». حاولنا التقاط بعض الصور لنساء داخل المخيم فبدا أن الخوف ما زال يسيطر على الناس البسطاء لشدة ما تعرضوا له من ظلم وتعذيب. سألنا «فاطمة» عن سبب وجودها في المخيم فأجابت أن جميع أفراد عائلتها من الذكور إما قتلوا أو اعتقلوا أو انضموا إلى صفوف المقاتلين الثوار. تقول فاطمة إنها اضطرت لأخذ أطفالها الأربعة والهروب بهم من قريتها في الريف الغربي بعد تعرض القرية للقصف والاقتحام وانعدام سبل الحياة. وتضيف: «لم يعد لدينا ما نملكه في قرانا، هدمت البيوت وحتى المساجد. نحن الآن نعيش حالة يرثى لها، الكل يتحدث عن إعالة النازحين خارج سوريا في الأردن ولبنان وتركيا لكن لا أحد يلتفت إلى النازحين داخل سوريا وهم الأكثرية. الثوار يحاولون مساعدتنا قدر الإمكان إلا أنه لا أحد قادر على تحقيق كل احتياجاتنا وخاصة العناية الطبية والثياب من أجل مواجهة فصل الشتاء». على بعد أمتار من فاطمة كانت أم مصطفى القادمة من تلكلخ تجلس أمام موقد هي وابنتها، فاقتربنا منها وسألناها عما تفعل فقالت: «أحاول صنع بعض الطعام للأطفال فلقد حصلنا اليوم على كمية من البندورة وأستغل هذا الشيء لأصنع طعاما للأطفال فالمؤن التي لدينا شارفت على النهاية وفصل الشتاء بدأ باكرا وفي الشتاء يحتاج الأطفال إلى الغذاء كي يتمتعوا بالدفء والصحة». وتضيف أم مصطفى ل «عكاظ»: «هربنا من منزلنا في تلكلخ بعد دخول الشبيحة في القرية لقد شاهدناهم كيف كانوا يحرقون المنازل ويسرقون كل شيء ويعتدون على الأعراض، فتركنا المنزل عبر الباب الخلفي وهربنا إلى الحقول ومشينا يوما كاملا حتى وصلنا إلى هنا بمساعدة الثوار، ونحن في هذا المخيم منذ ما يزيد عن السنة، الأهالي يساعدوننا والثوار كذلك، ولكنها كلها مساعدات قليلة لا تكفي الحاجة. نريد العودة إلى قريتنا، فالإنسان لا يحميه إلا منزله وعلى العالم أن ينظر إلى أن الوضع الذي يعيشه الشعب السوري مؤلم ولا يمكن لأحد تحمله». يونس يجلس مع أحفاده في المخيم بعدما قتل ولداه وزوجتاهما فيقول ل «عكاظ»: «حياتنا في المخيم صعبة فنحن معرضون للموت في أية لحظة خاصة عندما نسمع صوت الطائرات تحلق فوق رؤوسنا، كما أننا معرضون للموت بأي وباء يصيبنا فلا مياه متوفرة ولا غذاء ولا أمن ولا أمان. ما تصورت يوما أن تصل الأمور بالشعب السوري إلى هذه المرحلة، الحرب طالت ولا أحد يسأل عنا وبتنا بحاجة إلى من يعيلنا ويلتفت إلينا، نحن بحاجة لكل شيء دواء وغذاء وملبس. مأساتنا كبيرة ولا أحد يشعر بها». مقاتلون من اللجان الثورية يحرسون مخيم الحمزية الحديث معهم لا يبدو بالسهولة التي يتصورها البعض ولكن الاستماع إلى أحاديثهم كان سهلا ولم يخرج عن أمرين، الأول براميل المازوت والثاني أكياس الطحين، فالمهمات القتالية عندهم وبعد تحرير ريف إدلب من قبل الجيش السوري الحر انتهت، ومهماتهم باتت محصورة ببراميل المازوت وأكياس الطحين، أحدهم يتحدث عن تجارة يقوم بها البعض لتحقيق مكاسب على ظهور الناس كما قال. فيما مسؤولهم نراه منهمكا بهاتفه الجوال لينكر أمام مسؤولي مجموعات أخرى أي علاقة له بما يحصل من تجارة لمادة المازوت. المازوت في سوريا أو ما يسميه البعض بالديزل يشكل مادة حيوية في فصل الشتاء لأنه يؤمن التدفئة وبقاء وسائل النقل عاملة، فيما الطحين بات عملة نادرة مع توقف حركة التجارة والاستيراد والتصدير. ثورة تبحث عن حرية لكنها في الطريق إلى ذلك، لا بأس إن حصل بحث آخر على هامش البحث الأول عن المازوت والطحين، أي عن لقمة الخبز، كي يبقى أناس صامدون وكي تبقى الثورة مستمرة لتسائلنا كيف تواطأ البرد القارس ضد اللاجئين مع نظام الأسد. الحنين إلى تلكلخ واحدة من مدن محافظة حمص في وسط سوريا، تقع على مقربة من الحدود مع لبنان. يحن سكانها الذين هجروها، مرغمين، لاجئين، مشتتين، بالعودة إليها، وهي التي تردد اسمها كثيرا في وسائل الإعلام منتصف مايو بعدما دخلتها قوات من الجيش والأمن السوريين لقمع احتجاجات مناهضة لحكم الرئيس بشار الأسد، فسقط فيها قتلى وجرحى في حين فر المئات إلى لبنان وإلى مخيمات أقيمت على الحدود السورية التركية للنجاة بأنفسهم من الرصاص والقذائف والموت. أبناء تلكلخ الذين قاوموا الاحتلال الفرنسي، ورفضوا غطرسة النظام الأسدي، يتمنون العودة إلى أرضهم ومزارعهم التي تثمر في هذه الفصول وإلى خيولهم العربية الأصيلة الذين اشتهروا بتربيتها. تقع المدينة على مسافة 45 كلم إلى الغرب من مدينة حمص، وتبعد 130 كلم إلى الشمال من العاصمة دمشق، وتتربع على سفح تل يشرف على الطريق الذي يصل حمص بمدينة طرابلس في شمال لبنان.