ثمة خيط رفيع بين تحديد النسل وتنظيمه، لكن بعض الأفهام أبت إلا أن تقرن بينهما وترى أنهما مصطلحان يقصد بهما نفس المعنى.. «عكاظ» فتحت هذا الملف لتوضيح الفرق بين المصطلحين وبيان حكم كل منهما والأثر المترتب عليهما شرعيا واجتماعيا ونفسيا وأسريا وأمنيا. بداية، يتدخل أستاذ اللغة العربية بجامعة أم القرى الدكتور عبدالعزيز الحربي لفك الاشتباك بين المصطلحين، إذ يؤكد أن هناك فرقا كبيرا بينهما، لافتا إلى أن التحديد يقصد به قطع النسل ومنعه وإيقافه بالمرة، بحيث يقف الفرد عند عدد معين من الأولاد، في حين يكون التنظيم ألا يأتي الفرد بالطفل الثالث أو الرابع مثلا حتى يربي الثاني ويتجاوز مرحلة الحضانة والرضاعة، ويكون الإنجاب بحسب الحاجة، فمعناه أشمل وأوسع، فضلا عن أن هناك اتفاقا على معنى معين حياله، لكن ربما تختلف الطريقة من بلد إلى آخر، أما التحديد فهو القطع نهائيا. لكن أستاذ علم النفس بجامعتي حلوان والملك عبدالعزيز بجدة الدكتور محمد حسن غانم يقول: «نجد أن الشخص الفقير يرى أن المكانة تتحدد من خلال عاملين، إما أن يتملك مالا كثيرا، أو يكون له أولاد كثر، وبما أنه يفتقد للمال فإنه يقول باستطاعتي أن أنجب كثيرا حتى أكون ذا حيثية في المجتمع، ناسيا أو متناسيا أن الإنجاب مسؤولية يترتب عليها مسؤوليات أخرى كثيرة وفقا لحديث الرسول (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته). ويضيف: القطط والكلاب تنجب، والإنسان ينجب، ولكن الفرق لدى الإنسان يتلخص في أن المولود الجديد لا بد له من تبعات وتحمل مسؤوليات حتى يحوله إلى إنسان صالح، ومن الغريب أن نعلم من خلال الملاحظة والتاريخ وغيرها من المناهج العلمية أن الأغنياء يكتفون بطفل أو طفلة واحدة ولا يكثرون من الإنجاب، لدرجة أن الكثير من الدول الأوروبية كفرنسا تحاول تشجيع أبنائها على زيادة الإنجاب وفرضه وإعطاءهم منحا ومكافآت نظير هذا الإنجاب، ورغم ذلك فإن الكثير من العائلات والأسر الفرنسية الثرية تكتفي في الغالب بإنجاب طفل أو طفلة على الأكثر، وأنه كلما نظرنا إلى العالم نجد أن الدول الأكثر فقرا هي التي يكثر فيها الإنجاب ويكثر فيها الأمراض والأوبئة ووفاة الأطفال، وهم في سن صغيرة، وحتى لو تمكن الأطفال من الفرار من الموت، فإنهم يدخلون بلا استئذان إلى عالم الجريمة بأوسع معانيها، وعلى حكومات هذه الدول أن تنشر الوعي الصحي والاستئصال لخطورة كثرة الإنجاب دون تحمل للمسؤوليات، وهناك حديث عن الرسول الكريم: (أنتم أعلم بأمور دنياكم). وذكر أحد الصحابة أيضا أنهم كانوا يستخدمون العزل في العلاقات مع زوجاتهم، ما يؤكد أن كل إنسان بصير بشؤونه وأحواله، وأن عليه أن يتحمل مسؤوليته، وأن يعرف أن إنجاب طفل معناه ضرورة توافر العديد من الاحتياجات والالتزامات تجاهه حتى يتحول من مجرد مشروع إنساني إلى إنسان صالح ونافع في المجتمع. تقييد المصطلحات أما الدكتور بكر باقادر (أكاديمي سعودي)، فقال: لابد من تقييد المصطلحات، لافتا إلى أن الاختيار في تحكم النسل أمر شخصي، فالتنظيم للنسل بصورة سياسات وقوانين مفروضة من الأعلى هو موضع خلاف، وليس هناك رضى عنه بين الفقهاء المسلمين، لكن ينصح أحيانا الأشخاص الذين يحملون أمراضا تنقل بالوراثة أو يعانون من بعض المشاق بأن يعيدوا النظر في قراراتهم فيما يتعلق بإنجاب الأطفال عن طريق استخدام أو تحليل استخدام وسائل منع الحمل، لكن يبقى كل ذلك ضمن دائرة الاختيارات والنصح والتوجيه والتعليم، أما السائد بين المسلمين هو أنه لا تكون هناك قوانين تسلط عليهم بشكل إجباري وبالسلطة من أعلى، لكن مسألة إرشادهم وتعليمهم بأنه ليس هناك خطر وأن هذا مباح، فهذا ما كان يرمي إليه وزير العدل في كلمته. وأضاف: نحن نفرق بين ما نقصده وما يحدث في الصين والهند من تدخل الدولة مركزيا في السياسات للحد من النسل والإصرار على ذلك، وبين أن تكون هناك خطط ومنابر تتحدث ناصحة للناس تعيد النظر في اختياراتهم، وأن هذا ليس متعارضا مع الإسلام؛ لأنه يجيز بأحاديث عديدة أن الإنسان يتحكم في عملية منع الحمل لأسباب عديدة، منها الأمراض الوراثية والإمكانات المالية وأمور أخرى، لكن أن تفرض من الأعلى وتصبح سياسة، فهناك اختلاف وما يزال الجدل قائما. ورأى أن التنظيم مسألة تقديرية، لافتا إلى أن بعض البلدان لديها نقص في السكان، ولذلك تعطي حوافز للزيادة، والكثير من الدول تقلل من السكان، فتفرض قوانين صارمة كالصين بعدم الإنجاب أكثر من طفل، وهناك أكثر من دولة معروفة بالنمو السكاني الصفري، بحيث يكون النمو محددا لعقود حتى يستطيعوا التخطيط للتنمية، مضيفا «نعلم أنه إذا شاخ المجتمع تصبح الأعباء على المجموعات المنتجة أعلى، والفئات المسنة تصبح لها استحقاقات ولم تعد تشكل عناصر منتجة للدخل العام للدولة». الجانب الفقهي من الجانب الفقهي، يبين مدير مركز التميز البحثي في فقه القضايا المعاصرة الدكتور عياض بن نامي السلمي أن هناك فرقا بين التنظيم والتحديد، فالتنظيم من سياسات الإنسان وإدارته لأموره الداخلية، أما القطع النهائي والجزم بتحديد مولود واحد فهذا الممنوع، وقال إن التنظيم جائز «بشرط ألا يؤدي لقطع النسل نهائيا، وهذا ما استقر عليه الفقهاء مؤخرا». ترغيب مشروط وهنا يقول رئيس اتحاد علماء المسلمين الدكتور يوسف القرضاوي إن الإسلام يرغب في النسل، ولكن بشرط أن تساعد الظروف على ذلك، لافتا إلى أن الإمام الغزالي ذكر أن هناك نيات صالحة ونيات فاسدة في عمليات العزل التي كانت تعبر عن تنظيم النسل، فمن النيات الفاسدة الخوف على الرزق وحده، لا ينبغي أن يكون هذا هو السبب، ولكن إن كان يخاف أن يرهق نفسه أو يدخل مداخل السوء أو ضيق الرزق يؤدي به أن يتساهل في أمور دينه من أجل الأولاد يقبل الشبهات، وأيضا من الأشياء التي ذكرها الإمام الغزالي الخوف من البنات، إنهم لا يريدون البنات وهي سنة جاهلية، الإسلام جعل البنات مثل الأولاد، وكما قال تعالى (يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور)، ومن يخاف أن يرزق بنات في بلاد الغرب خوفا عليهن من الفساد فليرجع ولا معيشة له هناك، إنما أن لا ينجب الإنسان خوفا من أن يرزق إناث ضد الفطرة وليس ضد الدين فقط. فالإنسان من حقه أن ينجب (ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما). وبين الشيخ القرضاوي رأيه بشكل واضح بقوله: لم يحدد لنا الإسلام أن ننجب 7 أو 10 أو كذا، إنما نحن ننظم حياتنا بما يريحنا، وبما يتوافق مع الظروف، فالظروف تتغير، ففي الزمن الماضي كان الرجل يعيش في بيت الأسرة الكبيرة، الجد وأولاده وأحفاده في نفس البيت، وكانت البنت حماتها تقول لها لا عليك أنت أنجبي وأنا أربي، إنما الآن الناس أصبحوا يعيشون في مجتمعات مغلقة كل واحد لا بد له من بيت مستقل، ولم تعد الحياة كما سبق، حيث كان يطلق الطفل ليلعب وينطلق في الشارع، الآن لا، فلا بد من رعاية تربوية وصحية واجتماعية، وكثير من الأمهات يعملن، فكيف تستطيع هذا؟ فهذا يفرض أن تكتفي الناس بعدد معقول، لا نقول 3 أو 2 إنما حسب الظروف، وهذا نوع من التنظيم، فالتنظيم ممكن أن يكون في بعض الأسر 3 وبعضها الآخر 5. فلا مانع من تنظيم الزوجين لحياتهما. وهنا ينبه عضو هيئة كبار العلماء الشيخ الدكتور سعد بن تركي الخثلان على أنه لا يجوز قطع النسل بالكلية لمخالفة ذلك لمقصود الشارع وأمره بتكثير النسل، وقال في إجابة له على سؤال حيال المسح على لصقات منع الحمل «القول بجواز المسح على تلك اللصقات إنما هو لمن يريد تنظيم النسل فقط، دون قطعه بالكلية». مشاهدة واقعية عضوة مجلس الشورى الدكتورة هيا بنت عبدالعزيز المنيع قالت: في غير مرة قابلت نساء يعانين هن وأسرهن من الفقر، وهو الشر الذي تعوذ منه رسول الحب والسلام عليه أفضل الصلاة والسلام، ومع ذلك الفقر الواضح على كل تفاصيل صوتها وكل تفاصيل حياتها تجدها أما للعديد من الأطفال، بل وتنجب شبه سنويا طفلا، ثم تتذمر من ضيق ذات اليد، الصورة تتكرر والألم يتكرر، بل ويتنوع، ويزداد عدد الصغار لتتسع المشكلة. وأضافت: بداية أرجو عدم اختراق المسار باتهامي بتحديد النسل، ولكن الواقع الاجتماعي والشواهد الاجتماعية والاقتصادية لبعض الأسر تفرض علينا تنظيم النسل، وذلك لحماية الأطفال أولا والأبوين ثانيا من أعراض سلبية للفقر خاصة، فمستوى المعيشة المطلوب الآن يزداد ارتفاعا، ناهيك عن اتساع احتياج الإنسان كلما تقدم في العمر. وبينت الدكتورة المنيع: أن المشهد الاجتماعي لهؤلاء يكشف عن أن مفهوم البعض عن المسؤولية مفهوم ناقص أو غير ناضج، حيث يصر على الإنجاب مرة تلو أخرى، مع أنه لا يستطيع إشباع احتياجاتهم الأساسية المتمثلة في السكن والملبس والطعام والتربية والتعليم، ولم أقل الترفيه، مع أنه احتياج إنساني لا بد من إشباعه، وبخاصة في مرحلة الطفولة، طفل لا يجد إفطاره الكافي في الصباح أو مصروفه المدرسي المناسب ولا يجد ملابس العيد بشكل يشبع احتياجه كطفل، أما حصوله على لعبة يتسلى بها مثل بقية الأطفال فحلم مترف لا يفكر فيه. وزادت: نريد أن نتكاثر وأن يزداد عددنا، ولكن بقوة وليس بضعف، أعلم أننا دولة كبيرة جغرافيا ومترامية الأطراف، وأيضا أعلم يقينا أننا دولة غنية، ولكني أيضا أعلم ومن خلال معايشة ومتابعة بعض تلك الأسر لطبيعة عملي أنهم يعانون الأمرين لتوفير الحد الأدنى من مستوى المعيشة، وأن مشكلة الإسكان تلتهم مالهم البسيط وتلتهم راحة بالهم وسكينتهم وأحيانا صحتهم، ومع ذلك ينجبون الطفل تلو الطفل والنتيجة: اتساع مشكلة الفقر، والمؤكد أيضا اتساع سلبيات تلك المشكلة، ما يجعل صغارهم يتسربون من المدرسة، وأحيانا يعملون دون السن القانونية، وأحيانا يستغلهم ضعاف النفوس في مجالات الانحراف والشر، جميعنا نعلم وفق دراسات علمية أن نسبة الانحراف والمرض تزداد عند أبناء الأسر الفقيرة أكثر من غيرهم، لا يعني ذلك تسليمنا بأن الفقر مقترن دائما بالانحراف، بل إنه أحيانا قد يكون محفزا للنجاح، ولكن لن نلوم طفلا غير مشبع احتياجه الأساسي لو تسول أو مد يده في محفظة غيره ممن يجاوره في كرسي الدراسة. وخلصت إلى القول: أتصور أن مسؤولية الجمعيات الخيرية في هذا المجال أكبر من غيرها، وعليها أن تقوم بحملات توعوية لتلك الأسر، بل وأن تساعدها في تنظيم برامج، وإعطائها موانع الحمل لمن تجهل أو تجد صعوبة في الحصول على ذلك، خصوصا أن بعض أولئك النساء يعانين أيضا من غياب ولي الأمر المتكرر، ثم يعود لتفاجأ به ويختفي مرة أخرى، ولكن بعد أن حملت طفلا جديدا، وهكذا حالهن، والضحية طفل بريء وأم ينقصها الوعي بحقها وواجبها، تنظيم النسل حاجة ملحة لتلك الأسر، السؤال من يبتدئ بتنظيم الحملة، الجمعيات الخيرية أو وزارة الشؤون الاجتماعية بشكل عام. أهمية التخطيط يشار إلى أن وزير العدل عضو هيئة كبار العلماء الشيخ الدكتور محمد بن عبدالكريم العيسى شدد مؤخرا على أهمية التخطيط في تسيير بيت الزوجية، وحذر من الفوضوية في تدبير شؤون العائلة، ونبه على أنه في بعض الحالات يكون تنظيم النسل واجبا؛ لئلا نقدم للمجتمع والوطن والأمة من هو عالة عليها، وإذا كان المولى جل وعلا قال: «وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله»، وهو منع يتعلق بأصل البناء الزوجي، وهو في العموم من الندب إليه والتأكيد عليه بمكان، فكيف بما هو دونه.