وأنت تتجول في أشياب جدة يبدو المشهد مختلفاً تماماً، وجوه تتصبب عرقاً، سيدة حملت دواءها، وأخرى اصطحبت حليب أطفالها، وثالثة فضلت أن تتزود بعبوة مياه، فهناك حيث الصفوف المتراصة والعيون الشاحبة والجباه التي يكسوها العرق، لا أمل في العودة مبكرا، فالأزمة باقية والوعود زوبعة في فنجان، وكأنها باتت كذبة أبريل. هكذا واقع النسوة اللاتي في المدينة بعدما تركن نصف أبنائهن في المنازل، واصطحبن النصف الآخر ممن لا يقوون على تحمل العطش، علهم يجدون القطرات في رحاب «بيت الماء»، لكنهم على النقيض من ذلك وجدوا «الداء»، إذ تصرخ إحداهن بالأمس بعدما أعياها الانتظار، واكتوت بنيران الحرمان من المياه، وانخدعت بكلمات وتصريحات وأقاويل ليس من شأنها تعديل الأوضاع ولا تعيد المياه لمجاريها «هكذا يسقوننا داء بعد داء، هذا هو دوائي أقراص من الإنسولين لمواجهة السكري، ونسوا أن مرضي يقتله العطش، صحيح أنني قويت على الوصول إلى هذه الأشياب، لكن الأصح أن غيري كثيرات لا يستطعن الوصول وربما حملهن الإسعاف إلى المستشفيات، وبعد كل هذا العناء يوعدوننا بوعود زائفة ويروجون لنا بضاعة زائفة ويريدون أن نصدقهم». ترفع السيدة التي رفضت ذكر اسمها أياديها إلى السماء، لكنها رفضت الانزواء في الخفاء سوى بالتستر ب«غطوة» معلنة أنه لا يهمها أن تظهر علنا، فيما لا يهم الناس اسمها، فهي ابنة جدة ولها حقوق على شركة المياه التي لم يعتد منها أحد إلا على الوعود الزائفة فيما الحقيقة لا مياه تروي عطش العروس، مضيفة: «منذ الصباح وأنا على أقدامي من موقع لآخر وأملي أن أصطحب وايت مياه، لكنني أنتظر عدة ساعات بلا أمل، وكأن المياه في الداخل نضبت، فليقولوا لنا أنه لا توجد مياه حتى نشرب من البحر». تتوارى تلك السيدة عن أنظار الكاميرا بعدما التقطنا لها صورة تعبر من خلالها عن حالها وألمها ومعاناتها، فيما لم يختف المشهد المأساوي داخل الأشياب عن الأنظار، فهناك أم حملت طفلها الذي يصرخ بملء فيه، لكن الصرخات بالكاد تظهر في وسط الصالة، فيما الأم تربت على أكتاف صغيرها عله يعطيها الفرصة للحديث، وتقول بصرخات حتى تسمعنا وسط الضجيج المتعالي: «ما ذنب صغيري، وهل هذه الصور لا تصل إلى مسؤولي المياه، أم أنهم حجبوا الصورة عن أعينهم فلا رقيب ولا حسيب ولا أحد يزور الأشياب ليعرف واقعنا المؤلم، فالمياه مقطوعة من منزلنا في شمالي جدة منذ أسبوع، ولا أمل في عودتها ولا حل أمام احتياجات الصغار إلا بمراجعة الأشياب، ويوميا لا يطالعنا المسؤولون إلا بكلام وكلام، فيما الأفعال لا نراها، والدليل هذه الصفوف التي تمتد ساعة بعد ساعة ويوما بعد يوم، فماذا حدث في جدة؟ والصيف لم يولد بعد، كما أن الحوامل لم يضعن مواليدهن فجأة ليتضاعف العدد السكاني بلا مقدمات، فهل من المعقول أن تنام جدة على وفرة مياه وتستيقظ على أزمة، هل نزل السكان من السماء ليقاسمونا المياه، أم أن هناك خللا يجب الاعتراف به من كل المسؤولين والعمل على حله، بدلا من تخديرنا بزيف الحديث، وما نريده فقط أن يخدرونا بجرعة مياه تكفينا وأبناءنا». ولأنهن نسوة استحال البقاء وسطهن إلى حد سماع كل المعاناة، بعدما زاد الألم وتقاطرت الدموع من العيون، وبات ما يمكن أن يحتمل لا يحتمل، الأمر الذي جعلنا نتحول إلى اتجاه الصفوف الرجالية فربما عندهم من الصبر ما يقويهم على عرض المعاناة بثبات. هناك وقف المواطن والسائق الخاص والعامل ورب الأسرة، يتقاسمون الصفوف المتراصة، ويتعاونون في «بر» ممثلا في قطرات ماء تنساب من قارورة تباع خارج الأشياب، ليضعوها على وجه من بدا يفقد أقدامه وتخر قواه من طيلة الوقوف، يصيحون «رشة ماء»، فيتخلون عن الإحساس بأي نوع من الأنانية رغم أن جميعهم يبحث عن هذه القطرة، فيتسابقون بكل ما تجود به أنفسهم، بعضهم يقدم الماء، والآخر يرفع «غترته» ليحرك الهواء على قلته ويرطب الطقس حول أخيه في الصف، والثالث فرد ذراعيه ليتكئ عليها الرجل الذي وهن من طيلة الوقوف، بعدما تضاعف عدد ساعات الانتظار لتصل إلى أكثر من ثماني ساعات، فيما الأمل في الحل لا يزال معلقا. سألنا عنه فاتضح أنه مريض سكري، أودعوا في جوفه قطرتي ماء وقطعة من الحلوى، وبدا المشهد يتغير، فالكل يعود إلى دوره مجددا، ما الذي يحدث، وكأنها الأزمة التي ترفع سقف التعارف إلى حد التعاضد، سألناهم عن المعاناة، فأعادوا الإجابة إلى صورة المشهد: «بعضنا يحمل قوت يومه من الصباح، وبعضنا لا يعرف حال أسرته منذ فارقهم بالأمس، وبعضنا اضطر للنوم بجوار الأشياب».