دارت بهما الأيام وألقتهما على أعتاب الوحدات السكنية المفروشة، لم تكن خطة حياتهما تتضمن ذلك الانتقال المر، حيث حدت بهما الظروف إلى الهرب سريعا على كراسي متحركة؛ فرارا من ضغوط نفسية أقعدت إحداهما عليه قسرا وكادت تودي بحياتها لولا لطف الله، وأجبرن على اختيار مكان مفروش لتسكنا فيه ليس كأي مستأجر يقيم به عدة أيام حتى تنقضي حاجته ويرحل، فإقامتهما دائمة حتى تجدا منزلا يعينهما على تحمل ما أصابهما من كرب. (ه، و س) القحطاني امرأتان من ذوي الاحتياجات الخاصة، تسكنان منذ عام في إحدى الشقق المفروشة جنوب مدينة جدة، زارتهما «عكاظ» لتكشف خفايا إصابة إحداهما بالإعاقة، ومدى صعوبة الأوضاع التي جعلت اختيارهما لشقة مفروشة هو أحلى الأمرين. استقبلتنا أختهما أم فيصل عند باب الوحدة السكنية، ودخلنا إلى الصالة مباشرة التي لم تبد كبيرة بما يكفي لاستدارة كرسي متحرك واحد، فضلا عن اثنين والمرأتان تنتظران في نفس الصالة، إذ بدأت أم فيصل في سرد معاناة أختيها بقولها: أسكنت أختيّ في هذه الشقة المفروشة لأبتعد بهما عن اختناق الوضع داخل منزل المرحوم والدي، وأنا متزوجة ولدي أبناء، ولكني أزورهما بشكل يومي قبل خروجهما من المنزل وبعده، فهما شغلي الشاغل نتيجة تخلي إخوتي عنهما، واللا مبالاة التي عانتا منها؛ بسبب التفات الإخوة إلى الاهتمام بشؤون زوجاتهم وأبنائهم. لم تبد أم فيصل في بادئ الأمر استعدادا للكشف عن علاقتهم كإخوة ومدى التفكك الذي أسكن أختيها وحدة سكنية، على الرغم من وجود منزل والدهما، ولكن مع الإصرار على معرفة التفاصيل، قالت: لدينا من الإخوة الرجال خمسة، ونحن عشر فتيات، وانتقلت والدتي إلى رحمة الله قبل أكثر من ثلاثين عاما، وأصر أحد إخوتي على والدي بالسفر إلى إحدى الدول العربية للزواج، لاتخاذها مساعدة ومعينة له على تحمل المرض وكبر السن، وبالفعل سافر والدي وتزوج سريعا وأحضرها إلى المنزل، نعتبر قدوم زوجة أبينا مشؤوما منذ دخولها على أسرتنا، إذ تسببت بالكثير من المشكلات بيننا وبين والدنا وبين إخوتنا، وزادت العدد بإنجابها ثلاث فتيات هن ضمن العشر. وتتابع: توفي والدي تاركا لنا زوجة أب وثلاث أخوات يقاسمننا مكانا بالكاد يسمى بيتا متحملا لعدد كبير من الأشخاص، وبعد وفاة والدي أثارت أرملته العديد من المشكلات، ما دفع أحد إخوتي إلى شراء نصيبها من البيت، ولكنها لم تخرج منه وبقيت مع بناتها، وطالبت مقابل خروجها بدفع مبالغ مالية لشراء حصصهن من المنزل ولا تزال حتى الآن تسكن وبناتها به. تمسك شقيقتها «ه» (39) عاما بطرف الحديث هازئة: زوجة أبي طيبة جدا جدا، ما جعلنا نفر فرارنا من الأسد من ذلك المنزل لنحتفظ بما بقي من صحتنا النفسية بسبب كثرة المشكلات، فأنا ولدت بإعاقة في أطرافي السفلى وبقيت على كرسي متحرك ترعانا شقيقتنا بزيارتها اليومية لنا في منزل أبينا الذي بالكاد يعتبر منزلا، الآن هو أشبه برباط عائلي؛ لأنه عبارة عن منزل شعبي مكون من أربع غرف فقط يسكنه العشرات من الأبناء والأحفاد. تعاود أم فيصل الحديث بقولها: أوضاع إخوتي المادية بعد زواجهم لم تكن ميسورة، ما جعلنا نرفق بهم ونطلب منهم العودة للسكن بشكل مؤقت في منزل العائلة حتى تتيسر أمورهم ومن ثم يختارون سكنا أفضل، ولكن إقامتهم لم تكن مؤقتة، إذ استحوذ الطمع على كل منهم وعلى زوجاتهم وأصبحوا يتنافسون على الإمساك بدفة قيادة الأوضاع في المنزل، ولا يمكن لأي واحد منهم ضبط نفوس تشبعت بالطمع حتى اختلفت على كل صغيرة، فما بين إخوة مفترقين، وزوجة أب طامعة، وأخوات من الأب، وأحفاد كثر.. سكنت معهم أختاي المعاقتان دون أن يهتم بهما أحد. ومما زاد الأمور تعقيدا إقناع كل أخ لزوجته بأن المنزل المتهالك ذا الأربع حجرات لها ولأبنائها، وكأن المسألة صراع من أجل البقاء. منذ أن بدأت أم فيصل في محاولة لسرد معاناة أختها «س» (50 عاما) أجهشت شقيقتها بالبكاء، إذ أنها كانت بكامل صحتها قبل عام واحد، وقد استفاقت يوما على صراخ بين إخوتها تعالى حتى تشابكت الأيدي واشتعل فتيل فتنة الزوجات بين الإخوة، ما أصابها بانهيار عصبي أقعدها على كرسي متحرك، وشخصت إصابتها على أنها مرض باركنسون في الجهة اليسرى ورعشة في الأطراف، وزاد الأمر سوءا رفض الشؤون الاجتماعية صرف راتب لها لتجاوزها الخمسين من العمر. تختم أم فيصل معاناة شقيقتيها بالقول كل ما تحتاجانه الآن منزل يلم الشمل، إذ أنهما لا تملكان دخلا سوى راتب الضمان الاجتماعي، وإحداهما يصرف لها راتب بسبب إعاقتها، وتدفعان من هذه المبالغ البسيطة إيجار الوحدة السكنية المفروشة وراتب العاملة المنزلية وتكاليف الأدوية ومراجعات المستشفى، وهي لا تكفي.