الكتابة السردية تقع في مركز الإنتاج الأدبي المغربي، حيث تظهر على السطح الملامح الكبرى لهذا الإنتاج لمن شأنه أن يسمح بقياس مكانة التجربة القصصية / الروائية، وتقويم مقدار إسهامها في بلورة سمات وخطاب الأدب الحديث والتحديثي. ومن النقاد من يرى أنه من الضروري إعادة النظر في العناصر المكونة للأدب المغربي، وإخضاعه لتأمل يهدف إلى الكشف الأوضح عن مرجعياته وبنياته ولأبعاده، وكذلك لمساءلته بغية تشخيص هويته الحقيقية المتجاورة لمجرد معاينة وجوده.. في هذا الإطار الخلاق يرسم الدكاترة الأدباء، ضيوف معرض الكتاب بالعاصمة الرياض «عبدالفتاح الحجمري، جمال بوطيب، الميلودي شغموم»، توجها إبداعيا ونقديا للسرد وفعل الكتابة في الأدب المغربي، لدرجة التأثير في الأدب العربي.. «عكاظ» تلامس رؤاهم فيما يلي: يؤكد الدكتور عبدالفتاح الحجمري، الناقد والكاتب المغربي، أن النقد خطاب على خطاب، وبهذا التحديد تكون المفاهيم النقدية أدوات إجرائية محاربة للنصوص ونابعة منها في الآن ذاته. فالنقد يستمد علة وجوده من العلوم الإنسانية، وأنه ليس خطابا مقننا ومغلقا، بل متفاعلا مع مجمل الاختيارات الفكرية والفلسفية التي تضبط الثقافة في المجتمع، ومن هنا تكون حاجة النقد دوما إلى تجديد أدواته ومناهجه ومرجعياته. من هذا المنطلق المنهجي يرى الحجمري أن النقد الأدبي بالفعل استفاد من منجزات العلوم الإنسانية واستثمار مفاهيمها ومناهجها في بناء أسلوب المقاربة ما أهله لإنتاج خطاب علمي مكتف بذاته، وأن الخطاب النقدي اعتمد على علوم النفس والاجتماع والجمال واللغة، لكن هل امتلك جواز مروره إلى دائرة التفكير العلمي؟ يتساءل الدكتور الحجمري في حوار خص به إحد المنابر الثقافية. فمهما يكن، يجزم الحجمري، فإن صفة العلم المستقل التي ينشدها النقد تبقيه داخل دائرة العلوم الإنسانية في حدودها البينة القائمة مع العلوم الدقيقة. وفي كتابه «نصوص كالفراشات» يقر الدكتور الحجمري أنه لم ينشغل بما تقوله تلك النصوص، بل انشغل بما لم تقله تلك النصوص بعيدا عن صرامة المنهج، لقد سعى الكاتب إلى تحويل مركز الإبداع من الأدب إلى النقد منشغلا بفهم معنى النصوص واحتمالات التأويل، والتساؤل عن جدوى القراءة النقدية للنصوص الأدبية وضرورة العملية النقدية في حد ذاتها، وعن إمكانات «القيمة المضافة» التي يمكن أن تحملها رؤى النص النقدي للنص الإبداعي، وعن مدى إيحائية هذا الأخير حتى يشكل مادة تجاورها الأداة النقدية الموظفة. فلا شك أن الاهتمام بتحليل البنيات الشكلية للنصوص، يؤكد الكاتب، في مستوياتها التركيبية والطلابية والتداولية والإقناعية، مسألة أساسية للكشف عن تصورات الكتابة، لكن على الرغم من ذلك تبقى الحاجة اليوم ملحة إلى نقد يبتعد عن الإغراق في تشغيل المفهوم، ويقترب أكثر من تحويل مقولاته إلى آراء ذاتية لا تحمل قراءة النصوص الأدبية وأشكال أخطاب الناتجة عنها ما لا طاقة لها به، وقد يكون هذا الأسلوب في التحليل محاولة لفهم حركية وتفاعلات الأدب مع الواقع والقيم. بوطيب وخاصية التعدد وفي السياق النقدي نفسه الذي سار فيه الدكتور الحجمري، يعكف على الكتابة النقدية والأجناس الأدبية زميله في الهم الأدبي؛ الدكتور جمال بوطيب، هذا الأديب الناقد، الذي يصف أعماله الدكتور يوسف الإدريسي بالأعمال التي تتمتع بثراء محكيها وتناغم تشكلاتها وعمق تصوراتها، على كل مقاربة سطحية ومنسوخة لا تعي الرؤى الجمالية المتحكمة في عوالمه التخييلية والمتجهة لها، ولا تبصر الخيط الرفيع الرابط بين عمق التنظير وبلاغة التعبيير، ولا تدرك الخاصية الإبداعية التي تسم مسيرة جمال بوطيب الأدبية. ويعلق صاحب «قراءة في أعمال الكاتب جمال بوطيب»؛ الدكتور الإدريسي، أن الخاصية الإبداعية في المسار الأدبي للدكتور بوطيب تكاد تكون «غريبة»، لكون الكاتب ما يكاد «يستأسد في نوع أدبي، ويصير علامة بارزة فيه حتى يغادره إلى نوع جديد ومغاور». ويؤكد الباحث الإدريسي أن المتتبع للأنشطة الفنية، الأدبية والنقدية، يحار في تصنيفه ضمن إحدى خانات الأدب المغربي الحديث، فعلاوة على انخراطه في العمل المسرحي كتابة وتمثيلا، ساهم أيضاً في ترسيخ نمط جديد من الكتابة القصصية يحق له أن يفاخر بريادته فيه. إن القارئ لقصص الحكاية تأبى أن تكتمل (1993)، وبرتقالة للزواج!! برتقالة للطلاق!! (1996)، ومقام الارتجاف (1999) وغيرها من أعمال بوطيب، سيلاحظ أن الأديب يستدعي في محكيه السردي، لغايات جمالية وتجريبية، أساليب متنوعة مستمدة من خطابات متنوعة: الشعر، الفلسفة، التصوف والثقافة الشعبية.. وغيرها، وهو في ذلك، يسترسل الدكتور الإدريسي، لا يروم تطبيق قواعد الكتابة القصصية وقوانينها على أعماله، وإنما يسعى إلى تشكيل نصوص تعي النظرية، وتسعى إلى تجاوزها عبر كتابة نوع أدبي جديد يمتح من السرد محكيه، ويسألهم من الشعر إيحاءاته المجازية، ومن الفلسفة حكمتها وأسئلتها الأنطولوجية، لكي ينتج في نهاية المطاف نصا يقف في الحدود المتجاورة لكل هذه الخطابات، كما تدل على ذلك العديد من المقاطع في قصصه. حقل التجريب الروائي ومن جهته الروائي المغربي الدكتور الميلودي شغموم، مؤلف رواية «الضلع والجزيرة»، الذي تتميز أعماله منذ الثمانينات بتنويع الأساليب وطرائق السرد، فهو يؤكد في جل أحاديثه ومقابلاته الصحفية، أن ليس هناك سر في اشتغاله على الرواية أو في تنويعاتها، لأنه منذ أن وعى بعملية الإبداع وبدأ يعرف الحد الأدنى من شروط العملية الإبداعية وما يتحكم فيها. يقر شغموم أن كل مبدع محكوم بالتكرار ليفعل ما يشاء وليتجدد كما يشاء، ففي النهاية لا بد أن يتكرر شيء منه لأن هناك ثوابت تظل مستمرة، ولذلك على المبدع أن يحرص على ألا يتكرر. ويؤكد الروائي أنه استفاد من أعماله الأكاديمية في العملية الإبداعية، خصوصا حينما يشتغل على الخيال والبناء في الإبداع، إذ استفاد كثيرا من دراسته للفلسفة، لكن بالنسبة لروايته «الأناقة» فيقول الروائي فلربما قد يكون صدفة. لقد كان من المفروض حينما بدأ الاشتغال في المتخيل والتصوف عام 1990، يفسر الدكتور الميلودي شغموم، أن يطور مجاله في الإبداع إلى شيء آخر هو المجال الجمالي، ولذلك «اشتغلت على موضوع الجمال وكتبت «تمجيد الذوق والوجدان، ورواية، الأناقة، لأطرح مجموعة من القضايا المرتبطة بالمجال الجمالي وبانشغالاتي الأدبية». إن قدر الرواية المغربية، ولربما الرواية العربية عموما، يسترسل الروائي شغموم، هو التجريب، رغم أنه من حين لآخر تحدث أنواع من سوء التفاهم حول هذا التجريب، والروائي عادة حينما يتحدث عن التجريب يتحدث عنه من منطلق المغامرة فيكون أشبه بالمغامر الذي يحسب كل أنواع المخاطر ويسعى إلى امتلاك أدوات نجاح مغامرته، وليس ذلك المغامر المتهور. فالروائي المجرب، يؤكد الروائي شغموم، هو الذي يملك أولا أدوات الكتابة الروائية، وثانيا يملك ذوقا معينا وله ارتباط معين بذاكرته ووجدانه، آنئذ يمكن له أن يكتب الرواية ويمارس التجريب ولا يستقر على نمط واحد، وذلك ليس بغريب عن المبدعين، لأن ذلك من طبيعة الإبداع عادة.