يعيش الكتاب والمبدعون، وبخاصة بعد منتصف العمر، هاجس الخوف من النضوب، أو تراجع منسوب حيويتهم وقدرتهم على المغامرة إلى حدوده القصوى، ومثل هذه الهواجس مشروعة تماما؛ لأنها لا تنطلق من التوهم المحض، بل من طبيعة الإبداع نفسه، حيث لا تسأل تلك «الطاقة الحية» وفق بيرغسون صاحبها عما إذا كان يقبل أو لا يقبل استضافته لها في قلبه وعقله، وهي بالتالي لن تأبه لتوسلاته ولا لصدق نواياه إذا قررت المغادرة. صحيح أن جزءا من عمارتنا الأدبية والفنية يمكن أن ينهض على كتفي الجهد والمكابدة والتقصي المعرفي، ولكن الكنوز الحقيقية للكتابة تختبئ في مكان آخر ذي مفاتيح غامضة وغير قابلة للامتلاك الكلي. وبلغة أخرى، يمكن للكاتب أن يوفر للنص كل التجهيزات والتمديدات اللازمة لوصول الكهرباء إلى مصابيح اللغة وردهاتها المعتمة، لكن كل ذلك لن ينفع في شيء إذا خذلتنا الكهرباء نفسها في مرحلة ما من العمر، بحيث تتحول النصوص المكتوبة إلى مجرد مهارات جمالية وتزيينية غير قابلة للحياة. من حق الشعراء والمبدعين إذا أن يتعايشوا مع أكثر الشكوك قتامة وإقلاقا للنفس. ومن حقهم، بل من واجبهم، أن يتجنبوا ما أمكنهم ذلك تجرع كأس النضوب والجفاف والعقم الذي تجرعه كتاب وفنانون كثيرون في منتصف أعمارهم، وفي مقتبلها أحيانا. وهي ظاهرة تنسحب على بعض الفنون، ومن بينها الشعر، أكثر مما تنسحب على فنون أخرى في طليعتها الرواية. ففي حين يعتمد الشعر على الحياة المعيشة وقوة العصب والتخيل وفوران دم اللغة في العروق، تعتمد الرواية على التذاكر والحياة المنقضية وفضاءات السرد المنبسطة. لذلك، فإن روائيين كثرا بدأوا إصدار أعمالهم السردية في الخمسين، أي في الوقت نفسه الذي أخلد فيه شعراء كثر إلى الصمت المطبق أو المراوحة الأسلوبية السقيمة. من هذه الزاوية يمكن أن نفهم قول الشاعر الإنكليزي ت. س إليوت بأن الشاعر أي شاعر يمكن أن يتغذى من موهبته المجردة وتفجره العاطفي والغنائي حتى الثلاثين من عمره. أما بعد ذلك، فلديه خيارات ثلاثة لا غير: إما أن يراوح في مكانه مكررا ما أنجزه بشكل أو بآخر، وإما أن يكف عن الكتابة، وإما أن يمتلك الحكمة والمعرفة والتطلع الرؤيوي إلى مناطق غير مأهولة في داخل ذاته، كما في نسيج اللغة وأنساقها. ورغم أن المسألة أعقد من أن تستند إلى الوعي الإرادي والقرارات الشخصية الصرفة، فإن إخلاصنا للكتابة والفن، ووضع الجزء الأكبر من حيواتنا في خدمة مشروعنا الإبداعي، وفتح الأبواب مشرعة أمام الرياح المحملة ببذور التجدد ولقاحات التغيير والاتصال الخلاق، ودون تنكر للهوية، بثقافات الآخرين وحساسياتهم المختلفة، لا بد وأن يسهم في تعطيل مفاعيل الزمن المتقادم وتأخير «سن اليأس» الإبداعي إلى أطول وقت ممكن. كما أن الخوف من النضوب والقلق من الإصابة بالعقم المفاجئ ينبغي أن يتحولا إلى قوة دافعة للكتابة الخلاقة والمتصلة بأسئلة الوجود الكبرى، لا إلى ساحة للكوابيس ومثبط للعزيمة واستدراج «للسكتة الإبداعية» قبل أوانها.