لا شك بأن منتدى دافوس الذي تأسس عام 1971 على يد الخبير الاقتصادي الألماني كلاوس شواب، والذي تشارك فيه النخب العالمية، أصبح يمثل الآن أحد أهم أركان النظام الاقتصادي العالمي. وإذا ما شبهنا النظام الاقتصادي العالمي بالجسد، فإن منتدى دافوس يجب أن يكون فيه بمثابة الرأس، فهو المفكر والموجه والمنظم والمتابع والمراقب والمصحح. وتخطى المنتدى بداياته الاقتصادية لابتكار عقائد ورسم استراتيجيات وخطط وسياسات ومشاريع قرارات في مختلف المجالات، يساعده في ذلك الأجواء المعدة بعناية لعقد جلساته غير الرسمية في منتجعات فاخرة تضفي على تجمعاته مسحة من (الرومانسية والمتعة). والمهم هو أن ملاك الأعمال في العالم تصالحوا ورطبوا الأجواء مع القادة والمسؤولين في مختلف الدول من خلال استضافتهم وإشباع غرائزهم في حب الظهور، أمام أبناء جلدتهم على الأقل، بمظهر الأشخاص المهمين الذين يشاركون في رسم السياسات العالمية. وفي المقابل، على كل من يحظى بالاختيار أن يعمل على تسهيل التعاملات التجارية والاستثمارية للشركات العالمية متعددة الجنسية في بلاده، بحسب موقعه الرسمي أو غير الرسمي، ليحافظ على مكانته في دافوس. ولقد حقق دافوس للرأسمالية المطلقة في سنوات ما عجزت عن تحقيقه الجيوش والهيمنة السياسية في قرون. وها هو العالم اليوم يصب أمواله في جيوب ملاك عدد قليل من كبرى الشركات متعددة الجنسية. فبالتزامن مع انعقاد جلسات الدورة 43 للمنتدى الأسبوع الماضي، نشر معهد التكنولوجيا السويسري الفدرالي دراسة تقرر هذه الحقيقة. ذلك المعهد الذي يحتفظ في زيورخ بقاعدة بيانات تحتوي على (37) مليون شركة ومستثمر ومالك حول العالم. ويقوم المعهد بتحليل مفصل ل(43060) شركة من الشركات العالمية القابضة متعددة الجنسية من خلال نموذج تحليلي يقوم على سؤالين محددين هما (من يملك ماذا؟ وما حجم إيراداته؟). ووجدت الدراسة أن القوة الاقتصادية تتركز في أيدي ملاك 147 شركة، وأن بين تلك الشركات ملكيات متبادلة، وأن هذه الشركات تمتلك مجتمعة 40 % من ثروة ال(37) مليون شركة ومستثمر ومالك المدرجين في قاعدة البيانات. وعندما وسع نطاق الدراسة لتشمل عددا أكبر من الشركات تبين أن 737 شركة ومستثمر يملكون 80 % من ثروة الشركات المدرجة القاعدة. وفي التعليق على هذه الدراسة، يقول معدوها بأن دراستهم هي الأولى من نوعها في رسم خريطة هيكلية السيطرة الاقتصادية على مستوى العالم. ويعلق أحد المنظرين الذين شاركوا فيها بأن هيكلية التمدد والتشعب التي ظهرت في الخارطة للشركات الكبرى ليست غريبة، فهي معروفة في علم الأحياء في تمدد أنواع من الفطريات والأعشاب وحالات الطفح الجلدي لدى البشر. ويرى اقتصاديون بأن مكمن الخطورة في هيكلية التمدد هذه يأتي من تداخل العلاقات مع تركيز القوة. في حين يحذر العلماء السويسريون من أن وضعا كهذا يمكن أن يسهم في إيجاد بيئة من عدم الاستقرار. ولكنهم يستدركون بأن هذا لا يعني التسليم بوجود مؤامرة بالضرورة للسيطرة على العالم ومقدراته، فهناك أسباب وجيهة لدى تلك الشركات للتضامن من ناحية مصلحية بحتة، منها التعاون لرسم استراتيجيات لمقاومة المصادرة والاستيلاء من الحكومات وغيرها، وتخفيض تكاليف التبادلات التجارية، والمشاركة في تحمل المخاطر، وتعزيز الثقة بأعمالها، وتشكيل جماعات الضغط والمساندة. ولا أستبعد وجود نفس الهيكلية التي خلصت إليها الدراسة على مستوى كافة دول العالم، ولربما كانت تلك الهيكلية دافعا ومحركا رئيسا لكل ما نراه في بعض الدول من قلاقل ومحن. والفرق الوحيد بين دول الغرب الصناعي المتقدم وغيرها من الدول يكمن في أن الأولى تطلق أيدي كافة شركاتها ومستثمريها وملاكها، بنفس أساليب مروضي الوحوش، لتفعل ما تشاء ولتجمع ما تستطيع من الثروات على مستوى العالم وتحميها بجيوشها وبدعمها السياسي، ولكنها تكبل تلك الشركات داخل البلاد، ولا تسمح لها بمعظم الممارسات التي تتغاضى عنها في تعاملاتها الدولية. فهناك قوانين مكافحة الاحتكار وتفتيت الملكيات الاحتكارية الكبيرة وضرائب الدخل التصاعدية، وضرائب الإرث والتركة الباهظة... وغيرها من الأدوات التي تكفل عدم طغيان شركة أو مالك على غيره. ولذلك أرى أن علينا التعاون على مستوى إقليمي ومحلي لتشكيل ثقافة أعمال خاصة بنا تخدم مصالحنا وتحقق طموحاتنا وتمنحنا موقفا تفاوضيا قويا، بدلا من استنساخ جلسات دافوس في أغادير والبحر الميت ودبي. ولن يتحقق ذلك طالما أننا نرمي كل نجاح في هذا الاتجاه بالحجارة أو نمنعه من الاستمرار، كما حدث لمنتدى جدة الاقتصادي الذي أوشك أن يصل لمرتبة لا تقل عن دافوس قبل إجهاضه وتفريغه من مضمونه وتحويله كمنصة لبعض الجهات الحكومية للدفاع عن تقصيرها في أداء أعمالها على الوجه المطلوب، ولإشباع شهية البعض العارمة للكلام. [email protected]