ربما لا يعرف كثير من المواطنين أن المنطقة الحدودية للمملكة مع اليمن، ليست جبالا صماء فحسب، بل بين ثناياها يعيش بعض المواطنين يحملون هويات الوطن، لكنهم يفضلون الانعزال عن الآخرين، والابتعاد عن الحياة المدنية. هناك يعرفون حساسية الحدود، ويعتبرون أنفسهم حماة لظهر البلاد، ويقدرون المسؤولية التي تقع على عاتقهم وإن كانت تصادفهم الكثير من التحديات في مداهمات قوافل المتسللين. لكن تلك البيوت المهجورة التي لا يسكنها أحد تظل خطرا على الحدود، إذ يستغلها المتسللون، في تهريب السلاح والممنوعات. سر الحياة الذي لا يمكن الاستغناء عنه، لذا لم يكن مستغربا تلك القوافل من الرعاة اليمنيين الذين يتجاوزون الحدود أفرادا، طالبين القوت لأنعامهم، وهنا يختلف التعامل فشتان بين التعامل مع متسلل، وبين طالب للكلأ، وإن كانت النتيجة واحدة هنا في الترحيل وهناك في الدعوة للرحيل. ويبدو أن هؤلاء الرعاة يشكلون أيضا معاناة لرجال حرس الحدود، الذين يؤكدون أنهم يجدون كل تعاون ممن يتجاوزون الحدود عفويا، إذ يستجيبون للدعوة للعودة أدراجهم، لكن في حالات بعينها يضطرون لأخذ التعهدات على البعض بعدم العودة وتخطي الحدود السعودية. استوقفني مشهد راعيتين يمنيتين في منطقة المسيال الحدودية، اللتين تجاوزتا الحدود ربما جهلا حسبما قالت إحداهما، وتدعى عائشة في العقد الثالث من عمرها، سألتها ما إذا كانت تعرف أنها الآن خارج بلادها، فأدارت ظهرها لي، وبدت واثقة من نفسها: «نحن لا نعرف حدودا إلا إذا جاءنا العسكر، وطالبونا بالتراجع بعيدا عن المنطقة السعودية، ونحن اعتدنا على الدخول للرعي لوجود العشب والماء هنا». وتتدخل رفيقتها وابنة عمها أم أحمد: «لا نؤذي أحدا ولا نهرب ممنوعات، ولا نملك سوى هذه الأغنام التي بسببها نحن موجودون هنا رغم التعب ومشقة انتقالنا بين الجبال التي في كثير من الأحيان تصيبنا صخورها الحادة بجروح ونزيف، لكننا مسالمون ولا خوف منا، ولا نحمل في أيادينا إلا هذه العصي التي ندافع بها عن أنفسنا في مواجهة ما قد يواجهنا». قاطعتها متسائلا: هل تعلمين أن المهربين استغلوا كل شيء القطيع والحجر، والجبال والوادي؟ أجابت: «نعلم لكنه ليس بحوزتنا إلا ما تراه: مياه وطعام وعصا، وعندما يتعرف حرس الحدود السعودي على ما بحوزتنا يتأكد من أننا مسالمون، ونعود من حيث ما جئنا» ولكن ألا تصادفون غرباء؟ تعترف عائشة: «نصادفهم كثيرا، لكننا لا نعرف ما إذا كانوا مسالمين أم أشرار، وبعضهم يطلب منا الماء والطعام، وأحيانا نحلب لهم الأغنام، ولا يمكن أن نميز بين ما إذا كان العابر عدوا أم صديقا، وأعتقد أن رجال حرس الحدود يلاحقون الأشرار ، ونحن لا يرضينا أن يأتي الشر للمملكة من اليمن. متعايشون مع الجبال على الجانب السعودي من الحدود، تتناثر الحياة هنا وهناك، البعض يرى في الجبال حياة، ونحن لا نراها إلا شبحا مخيفا يرهق كل من يفكر فيها، لكنها للبعض ملاذا آمنا. ربما كان المشهد واضحا لذاك المنزل الوحيد في قرية المجازة بين ظهران الجنوب واليمن والمتوسط للجبال، بدأت أبحث عن صاحبه، ربما يصلح هنا الصياح، فكرت أن أبدأ، لكن مع أول صيحة، حسبوني «عدوا» فظهر لي صاحب الدار في غير حالة الترحيب، لم يشهر سلاحا بل كان ثابتا صلبا، اقترب مني بلا خوف، سألني عما أريده، فعرفته بنفسي، فلم يتغير حاله، بل شعرت أنني تنفست الصعداء من شدة ثبات الرجل الذي عرف نفسه بالعم أبو صالح، عمره حسبما رأيت يتجاوز الخمسين عاما، وحسبما اعترف لي لاحقا بأنه تجاوز السبعين عاما بتسع سنوات، وشتان ما بين التوقع والحقيقة. بدأت أراقب الموقع، ليس هناك ما يشير إلى رفقة، فالمكان منعزل ولا يضم سواه، في بقعة بيضاء وبين الجبال شيد بيتا من البلك والأسمنت، فيما اتخذ من أحد الجوانب مصلى، وفي جانب آخر خيمة من القماش، أردت التأكد بسؤاله، فجاءني الرد، بأنه لا أحد سواه في هذا المكان، ومع ذلك أعلن لي سعادته الكاملة بالحياة هنا وسط الجبال: «أرى فيها لذة المعيشة، بعيدا عن أي شخص، لكن المتسللين أمثالكم يفدون إلينا من آن لآخر، ويستغربون من حياتي، لكني مرتاح جدا لهذا الوضع الهادئ والمعزول، وأنا راض بحياتي هنا وهي أرض أجدادي وآبائي». قاطعته: لكنهم رحلوا أحياء وأمواتا، وبقيت أنت وحيدا، فكيف تقاسم الوحدة؟ قال أبو صالح: «السكن هنا اكسبني واكسب أبنائي وأحفادي الجلادة والصبر، وجعلنا على معرفة وخبرة في التعامل مع الأمور، فالصحراء تكسب الإنسان ما لم يتعلمه في المدارس، وفي هذا المكان المقفر البعيد عن الناس تتعلم الكثير وتزيد قوتك في نفسك وتصبح لدى الإنسان الكثير من دراية الأمور والخبرة في التعامل مع مختلف مسالك الحياة». يعتقد رفيق الجبال أن السكن في البراري قطعة من الجنة على الأرض: «هنا تشاهد كل إبداع للخالق لم تعبث به أيادي البشر، وهنا تقف مشدوها أمام عظمته سبحانه، وهنا يزداد إيمانك بالخالق، أعيش في سعادة واعتبر نفسي محظوظا بأبنائي الذين ارتضوا مرافقتي بعيدا عن تطلعات الشباب، ومحظوظا بالمكان الذي أعيش فيه، فأصعب شيء أن تجبر الإنسان للعيش في مكان لا يرغب فيه وبالتأكيد أبنائي كغيرهم كانوا يتمنون أن تتاح لهم فرص العيش في المدينة لكن حبهم لوالدهم وعشقهم للمكان مضوا خلفي». أين جيرانك؟ أسمعته السؤال وأعرف إجابته، لكنني أردت السماع منه، فأجاب: «أنا جار نفسي، إذا أردت جارا ذهبت إلى تلك الصخرة أتفقدها يوميا خوفا من أن يكون قد أصابها مكروها، من عوامل الزمن وتغيرات الطقس». لكنه يتذكر جيرانه السابقين: «هل تصدق أن القرية التي مررتم بها كانت معمورة بسكانها ولكن مع تقادم مبانيها ومع مطالبات بعض الجهات المختصة بإخلاء المنطقة والعيش بعيدا عنها لخطورتها، رحل الجميع، واستقروا بعيدا بعضهم في مناطق عامرة والآخرون في مدن أخرى، ولم يبق سواي، لارتباطي بهذه الأرض، وأشعر بالسعادة كلما زارني أحد من الجيران السابقين الذين يتجشمون عناء المسافة الطويلة والعبور من نقاط التفتيش لإثبات هوياتهم». ولكن المكان موحش، فكيف المعيشة؟ أضاف: «المكان مهيأ فيه مصلى أؤدي الصلوات فيه مع أبنائي وضيوفي وفيه الكهرباء والماء عبارة عن بئر ارتوازية، لذلك لم أفكر في الانتقال بعيدا ولم اشعر في أي يوم بالخوف بسبب عيشتي وحيدا، فالمنطقة آمنة، والجبال حامية لهذا الأرض، ومن يوصفون بأنهم قطاع الطرق والمتسللون لا يمرون من أمامنا وإن فكروا في الاقتراب منا بالتأكيد سنسلمهم للجهات الأمنية، وكل شيء متوفر وبالذات الزاد الذي نجلبه من المدينة على فترات، فيما نعتمد بشكل كبير على لحوم ولبن ووبر الأغنام». شلالات المياه كانت وجهتي الأخرى بعيدا عن منزل العم صالح، وإن كان الموقع ليس بعيدا عنه، لأنه أيضا في منطقة المسيال، وتعد تلك الشلالات سر الموقع، فما أن تراها حتى تعتقد أنها نهر جار، هناك يغتسل من عرف نفسه ب(أبو محمد جبران)، قبل أن يعتلي جذع شجرة ممسكا بكتاب. قطعنا عليه خلوته، فاستغرب الوصول إلى الموقع، الذي لا يرتاده الكثيرون، فهم قلة لأن الموقع ليس معروفا للعامة. من يتفقد المكان يعرف أنه ربما ثروة وطنية، ولكنه خارج الخارطة السياحية، فمياه الشلال العذبة تغري العاقل، والأشجار البكر حولها من أميز الأنواع، إذ ترتفع إلى عنان السماء. سألنا أبا محمد حول الموقع، فتحسر لأن أيادي العبث باتت تصل إليه فتحرق أشجاره، مشيرا إلى بعض الأشجار التي تشوهها النيران على الرغم من مرور شهور على الحادثة، والأمل في حمايتها من أيادي العابثين ومعاقبتهم ليكونوا عبرة للآخرين. يفد أبو محمد إلى الموقع من آن لآخر، بعدما اعتاد عليه لسنوات عديدة، لأنه يشعر بحنين الآباء والأجداد الذين قاسمهم الترحال إلى الشلالات الأثرية التي لم تنضب منذ عقود، حسبما يروي، والأمل في الحفاظ عليها على حالها كمحمية طبيعية. وماذا عما في يمينك من كتب؟ أجاب جئت بكتبي المدرسية لمراجعة دروسي قبل ذهابي إلى المدرسة فانا طالب في مدرسة في الربوعة لا اعرف اسمها؛ ادرس فيها مع بعض الأشخاص مقررات لمحو الأمية رغبة في تعلم القران الكريم والسنة النبوية والحساب وكتابة اسمي وشجعني في ذلك أبنائي. رائحة المهجورة تفوح في قرية الحوة على الحدود السعودية اليمنية، وهي منازل هجرها أصحابها منذ عقود، فباتت مأوى لبعض المتسللين والمهربين، حسبما يؤكد شيخ قبائل آل حيان ووادعة سعد العرير، حيث ارتحل أصحابها إلى المدن العامرة بعيدا عن مخاطر الجنوب. ويتذكر علي صالح تلك البيوت التي كانت قرية يقدر عمرها بأكثر من 300 عام، وكان يسكنها آل محظي وتجاورهم قبائل قحطان يام، وكان سكان القرية يرعون غنمهم وحلالهم على الحدود مع اليمن، فيما كانت المياه من عين غرار التي لم يعرف مصدرها، لكنها كانت تغذي أهل القرية بالماء اللازم للحياة، فيما كانت القرية تشهد حراسة من هجانه وحرس للحدود بثياب مدنية، وفي ذلك الوقت لم يكن مسموحا لأي شخص باجتياز الحدود إلا عن طريق شخص يسمى السيد الذي يتولى تأمين دخوله وحمايته وأيضا عودته إلى دياره. لكنه يعتبر الحياة القديمة بسيطة: «نتعلم على يد الفقيه مهدي حسين، وكنا نستخدم الحراثة اليدوية ونعيش على التمر والماء، وفي يوم الخميس نحمل على الجمال والدواب ثمارنا ونذهب به إلى ظهران الجنوب لبيع ما زرعناه ونشتري ما نجده ونعود به إلى قريتنا، بعد أن نسترجع مع من نلتقي به أحوال عام كامل مضت فتجمعنا في سوق ظهران الجنوب وهو بمثابة لقاء فكرى نتبادل خلاله القصائد». وفيما يحن بندر صالح للأيام الماضية التي كان يقطع فيها الفيافي للوصول إلى القرية، وطرق حرث الأراضي الزراعية، يتذكر هادي الوادعي كيف كانوا يعالجون أنفسهم من الجروح بدهانات معينة، لكنه كان يتحسر على موت الكثير من النساء الحوامل خلال رحلة الولادة بسبب وعورة الطريق. يعرف أهالي القرية القديمة أنها باتت مجرد ذكريات، لكنهم يستعيدونها كلما عادوا إلى تلك البيوت المهجورة، فيما رحلنا من الموقع بذكريات جديدة، إلى حيث صخرة التبرك. غداً: سمن وذبائح على الأنصاب وقبور في الصخور.