على قمة الشريط الحدودي للمملكة عبر ظهران الجنوب، تبدو الصورة مختلفة، يعتقد البعض أن المرتفع يضمن لرجال حرس الحدود الحماية اللازمة التي تقيهم شرور الطلقات الحية التي تستهدف صدور الأبرياء حماة الوطن، أملا في تجاوز الشريط إلى قلب الوطن، لكن من يقفون على الحدود يعرفون أن التعامل مع المجتازين للحدود يتطلب الدقة والحكمة، فمنهم الذي زلت قدماه هربا من واقع بلاده مرتميا في أحضان الحدود الموحشة، ظنا أن اجتيازها يفتح له أبواب الحياة، وهؤلاء لهم تعامل خاص، ومنهم من يوهمون حماة الوطن بأنهم كذلك غشا وتحايلا ليصوبوا سمومهم ورصاصهم في صدور الأبرياء، ويفرون هاربين، لذا فهؤلاء لهم أيضا تعامل خاص. كان سهلا أن ترى الجبال مترامية الأطراف، ويعتقد البعض أن «الناظور أو الدربيل» يمكنه أن يكشف كل شيء، ويجعل حماة الوطن يتعرفون على الظاهر والمخفي في الجبال، لكن الحقيقة عكس ذلك، لأن من يريد تخطي الحدود يعرف أن الجهة الأخرى تضم من يحمون أوطانهم من المتجاوزين، فيتحينون الفرصة للعبور بين الجبال في خلسة من الزمن، حتى لا يلحظهم أحد، الأمر الذي يشكل صعوبة على رجال حرس الحدود. سألت أحدهم فيما عيناي تجوبان الجبال بحثا عن شبح متسلل، هل تكفيكم نظرة واحدة لمسح هذه الجبال والتعرف على ما في جعبتها؟ فأقر بأن عيونهم «لا ترمش»، لأن الحرص على حماية الوطن، يتطلب اليقظة الكاملة «ونعرف أن اللصوص يتحينون الفرصة للعبور بما لا يلاحظهم أحد، لذا تصعب المهمة، في كيفية اكتشافهم رغم حرصهم». الغرباء قادمون يبدو أنها لغة الإشارة التي اعتاد عليها رجال حرس الحدود لاقتفاء أثر المتسللين على اختلاف نواياهم، وفيما تبادلوا الانتباه كانت العيون ترقب بكل حذر، فيما الألسن تحدد الموقع بدقة، وعلى غرار الصقر الذي يتتبع فريسته لم تمض لحظات حتى أتت «الإشارة البيضاء»، بلغة واحدة مفادها «الهدف في قبضتنا»، ومع ذلك لم ينته الدوام، بل لا معنى للنهاية حتى مع وصول المرابطين الجدد لموقع المراقبة، فالكل يعمل للحظة الأخيرة. فوق الجبال تذكرت كلمات قائد مركز الحصن الرقيب أول حسن الوادعي، عندما كان يضع الوصايا الأخيرة في أذهان المرابطين «أنتم من نعول عليهم في الحفاظ على أمن الوطن، الكل يعرف قدرتكم وإمكانياتكم، ويقدر جهدكم وإخلاصكم، وينام مطمئنا على أنكم الجنود الأشاوس حماة الأوطان، لا أوصي أحدا لأننا نعرف أن الوطن في عيونكم»، مضيفا في ذهني «هؤلاء من نعول عليهم في التصدي للمجرمين والمتسللين يذهبون عصرا ولا يعودون إلا صباح اليوم التالي وخلال ذلك الوقت يتعرضون للكثير من المخاطر والأذى من لسعات الناموس وقرصات العقارب ولدغات الثعابين وانزلاقات الحجارة الملساء والإصابة بكسور ناهيك عن مواجهة العابثين بالنار، يبقون طوال ذلك الوقت دون التزود بأي طعام سوى خبز ونواشف». على القمة تأكدت مما يقول، فهم فوق القمة، ويستحقون القمة «حماهم الله». جبروت الجبال فكرت في تلك الجبال التي يأتي منها الشر غالبا، وتمثل غطاء للحدود في أحيان أخرى، كيف يمكن ترويضها؟ جاءتني الإجابة واضحة، يوميا نطارد من 150-200 حالة، حتى أن المتسللين باتوا في صورة تسلل منظم، الأمر الذي دعانا للتفكير في كيفية تطويع وترويض الجبال، خاصة أن القطاع يبعد عن أبها نحو 145 كلم، ويشكل همزة وصل بين جازان ونجران، والمنطقة ذات تضاريس جبلية ربما تغري المهربين باستخدامها، الأمر الذي دعانا للتفكير في استغلال الجبال للحيلولة دون تنفيذ خطط المهربين، فبدأنا بقص الجبال، لتشكل حاجزا طبيعيا يحمي الحدود، ويقلل من استخدام الأسلاك الشائكة التي ربما تكون عرضة للانتهاكات، فيما الجبال الصلبة لا يمكن تجاوزها، فتقل عمليات التهريب، وهو ما تحقق فعليا. العمل شاق سألتهم: ولكن شق الجبال يمثل صعوبة بالغة خاصة في ظل تضاريس تلك الجبال، اعترفوا بأن العملية شاقة إلا أن مردودها كبير والنتائج جيدة، خاصة أنها تحدد مسارا واحدا لأي متسلل، فلا يمكن تخطيه أو تجاوزه ليجد رجالنا له بالمرصاد، وكأنها عملية تحديد مسار لسيول المتسللين والمهربين الذين لا تنحصر هوياتهم من البلدان المجاورة بل تتخطاها إلى بلدان القرن الأفريقي وحتى أدغال القارة السمراء. لذا -والحديث على لسان الرائد تركي الوادعي مدير العمليات في حرس حدود ظهران الجنوب- اهتدينا إلى فكرة قص الجبال التي بدأها العقيد سعيد المهجري قائد القطاع، بتجربة مسافة قصيرة، وبعدما لمسنا النجاح امتد العمل وبدأت فكرة تعميمها لتعم الفائدة، مضيفا «استطعنا حتى الآن تهذيب ما يصل إلى 15 كلم من الجبال، وتحويلها إلى جدران ملساء لا يقدر أحد على تسلقها فيصعب عبورها ولا يعود للمهربين أو المتسللين من سبيل سوى السير فرادى أو جماعات إلى حيث الفخ والسقوط، حيث يتم يوميا ضبط نحو 200 متسلل، فيما المهربون يتعاملون بتكتيك مختلف ويتم التعامل معهم أيضا بتكتيك متغير، لكن مع استمرار العمل في قص الجبال يمكن تقليل التهريب والتسلل إلى الحد الأقصى، خاصة أن ارتفاع الجبال التي يتم قصها لا يقل عن 12 متراً، وهي أطوال شاهقة لمتسللين لا يمكن أن يكون لديهم معدات ثقيلة لتجاوزها عطفا على المسافات الطويلة التي يقطعونها سيرا على الأقدام، فيما هذه العملية تسهل لرجال حرس الحدود عملية المراقبة من مرتفع، وهنا تسهل عملية القبض عليهم». وكشف النقيب محمد المريع، قائد مركز الربوعة أن معظم من يتم القبض عليهم أعمارهم تتراوح بين 15-45 عاما وهم من مهربي الأسلحة والمخدرات خاصة وان سوق سلاح اليمن في الطلح مفتوح، إضافة إلى متسللين من النساء والأطفال اليمنيين والأفريقيين، ولوعورة الطرق وشعورهم أنها ستحميهم من قبضة رجال حرس الحدود يحاولون الدخول عن طريقها سواء ليلا أو نهارا، حيث يفدون جماعات الواحدة منها لا تقل عن عشرة أفراد، فيما يختارون لكل مجموعة دليلا يدلهم على الطريق الآمن بالنسبة لهم، لكننا لهم بالمرصاد ليلا أو نهارا. هويات المتسللين تشكل هويات المتسللين على اختلافها معاناة في كيفية التعامل معهم، وحسبما أخبرني أحد رجال حرس الحدود، فإن الكثير من سفارات البلدان الأفريقية تتملص من التعامل مع مواطنيهم المتسللين، الأمر الذي يشكل صعوبة في كيفية إعادة هؤلاء لبلدانهم، لذا فإن التعامل مع هؤلاء بعد التحقيق معهم في إيصالهم إلى النقطة التي قدموا منها على الحدود اليمنية ليعودوا أدراجهم من حيثما أتوا، ويكفون المملكة شرور تسللهم ومخالفاتهم. لكن الأفارقة يمثلون هما أيضا للأشقاء في اليمن الذين أيضا يرابطون لمنع عبور المتسللين والمهربين من هنا إلى هناك وبالعكس، حسب تأكيدات العقيد اليمني محمد الشيبة قائد مركز حدود علب، الذي يتولى عمله منذ 22 عاما «معاناتنا والجانب السعودي في الأفارقة المتسللين الذين يخترقون حدود اليمن ويعبرونها وصولا للمملكة، وهم خطر على البلدين، ونحن نتعقب الجميع لأنهم مخالفون سواء متسللين عاديين، أو خطرين كالمهربين، لكن المعاناة تتمثل في الحدود الواسعة لليمن والتي لا نستطيع السيطرة عليها خاصة في بعض المواقع التي يستغلها البعض من المهربين والمتسللين للهروب والنفاذ من خلالها، لكننا نحاول قدر المستطاع». ويعترف مساعده الملازم أول محمد جربان، أن عملية تعقب المتسللين مرهقة على أي بلد، ناهيك إذا كان المتسللون قادمين من بلدان أخرى، «ومن جانبنا نتخذ كافة الإجراءات التي تمنع هؤلاء من عبور حدودنا، حيث نرحل يوميا أكثر من 300 متسلل». ويبدو أن حال ضبط الحدود جعل المتسللين الأفارقة محمد فرح، وحسن آدم ومحمد أحمد عبده ومحمد عبدالله حسن وعلي إبراهيم، في أسوأ حالة نفسية، فهم يعترفون أن ترحيلهم يمثل لهم قاصمة الظهر، فأملهم كان في البقاء والعمل والربح، لكن كل الأحلام طارت مع أول صيحة عليهم. من أين أتيتم؟ كان السؤال الأول الذي سمعته من رجال حرس الحدود، خلال استجوابهم العديد من المتسللين الذين تم القبض عليهم «من أين أتيتم؟»، لكن الغريب أن لكل من المتسللين قصة تختلف عن الآخر، فعلى سبيل المثال استمعت لاستجواب صادق موسى اليمني الذي لا يزيد عمره على 30 عاما، وبعدما كانت مهنته حياكة الملابس في بلده، قرر الرحيل إلى المملكة، بعدما سمع أن الدخول لها «أسهل من شرب الحليب»، مضيفا «هكذا علمت، إلا أن السماسرة غشوني، فقد جمعوا المال منا ليدلونا على الطريق ثم اختفوا عنا لينتهي مصيرنا في هذه الجبال الموحشة، ونجد أنفسنا أمام رجال يقفون لنا بالمرصاد». سألته: ولماذا أتيت طالما لديك المهنة التي تقتات منها؟، فأجاب «ربما أغراني الآخرون بأن المهنة ستدر علي مالا وفيرا إذا وصلت للمملكة، فأبناء العمومة يعملون بلا هوية، لذا فالتجربة دعتني للدخول ولكن ليس عن طريق العمرة كما فعل عدد من أقاربي، بل عن طريق اجتياز الحدود لأنها قريبة من قريتنا، وهاأنذا أدفع ثمن غضب أسرتي التي حاولت منعي من السفر لكنني لم أستمع لحديثهم، لكنها النهاية حيث إن بصمتي الآن ستمنعني من الدخول لاحقا ولو بشكل نظامي». ورغم أن رفيقه حسن أحمد وقع مسبقا في فخ البصمة عقب القبض عليه متسللا قبل عشرة أشهر، إلا أن هذه البصمة هي التي دعته للعودة مجددا متسللا، «لا سبيل أمامي للدخول إلا عبر منافذ التسلل، فالبصمة السابقة حرمتني من أية فرصة دخول نظامية، لذا لا سبيل أمامي إلا منفذ التسلل، وهاأنذا أقع في الفخ مرة أخرى». سألته: ألا تخشون الموت وسط الجبال بلا أهل ولا أحد يواري سوءاتكم، فيما تعرضون أنفسكم فريسة سهلة لنهش الحيوانات؟ فرد: كثيرا ما أضعنا الطريق وفقدنا بعضنا وعاندنا المسير، وفكر بعضنا في العودة، لكن الإصرار على الوصول، يدفعنا لتجاوز الصعاب، لكننا لا نضع في أذهاننا سوى النجاح فقط، ولا نعرف الفشل. ولا يخفي محمد أحمد إعلان سعادته بالقبض عليه، سألناه: لكنك ستعود أدراجك من حيثما أتيت، فأجاب «ولم لا، لكنني الآن نجوت بحياتي من الضياع لأننا ندمنا على الرحلة، ولم يكن أمامنا سوى الوصول للنفاذ بجلودنا». لكن على النقيض من ذلك يبدو عبده محمد متألما لحاله بعد القبض عليه «فكم كنت أتمنى أن أعود دون أن يقبض علي ويتم تبصيمي، لأن ذلك لا يعني إلا نهاية لرحلتي الأليمة». ويضيف عصام أحمد قاسم «جميعنا له هدف من التسلل، إذ نريد العمل لجمع قيمة تأشيرة العمل ثم نعود متسللين بنفس طريقة الدخول، للعودة للمملكة بشكل نظامي، لكن هذه البصمة أضاعت سبيلنا، وانتهى كل شيء أمامنا». ويعترف كل من زياد عبدالله، مروان ناجي، وعبدالحكيم أحمد مهدي، بمعاناة عبور الأودية والجبال، «في النهاية نقع في أيادي رجال حرس الحدود، وتضيع أحلامنا على هذه الحدود». دعم مقدر لجولة عكاظ لم يكن الدعم الذي قدمه حرس الحدود ل«عكاظ» في الوصول إلى أقصى منطقة حدودية على الحد الجنوبي مستغربا في ظل مبدأ الشفافية الذي تتبعه، والحرص على توصيل المعلومة الواضحة عن كيفية حماية الوطن، ومدى الجهد الذي يبذل للذود عن حياض البلاد. ووجدت "عكاظ" دعما كبيرا يستحق التقدير من قبل كل من مدير عام حرس الحدود الفريق الركن زميم بن جويبر السواط ومدير إدارة الشؤون العامة المتحدث الرسمي في المديرية العقيد سالم السلمي، والعقيد سعيد المجهري قائد قطاع حرس الحدود في ظهران الجنوب والرائد هادي الوادعي مدير العمليات في قطاع حرس الحدود والنقيب أحمد محمد المهجري مدير التدريب في قطاع حرس الحدود في ظهران الجنوب.