في مستهل عام 2009 ميلادي وقبل أربع سنوات بالتمام، وبعفويته وصراحته المعهودة، وبكل زخم نواياه الصادقة، وقف خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، يحفظه الله، أمام مؤتمر القمة العربية الاقتصادية الذي عقد في دولة الكويت الشقيقية ليعيد تأكيد مبدأ أساسي يؤمن به شخصيا، وقواعد سنها قادة البلاد لتتحكم في توجيه سياسة المملكة منذ نشأتها وحتى اليوم؛ ذلك هو مبدأ التضامن العربي، ووحدة البيت العربي، ووجوب إنهاء الخلافات والصراعات العربية – العربية. وخلال كلمته عبر خادم الحرمين الشريفين عن حكمة لا خلاف عليها «بأن الله عز وجل ربط النصر بالوحدة، وربط الهزيمة بالخلاف»، حين استشهد بقوله تعالى «ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم» ليؤكد أن دعوته الى التكاتف والألفة العربية، بجانب منافعها الدنيوية والأخلاقية، ما هي إلا واجب ابتغاه الله سبحانه وتعالى من عباده ومن ولاة أمرهم. مكررا ومحذرا «إن خلافاتنا السياسية أدت إلى فرقتنا وانقسامنا وشتات أمرنا» ومكررا قوله تعالى «واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا». هذا الكلام قيل قبل ست سنوات مضت في وصف مأساة الأمة العربية، ليعبر عن آلام قائد ومواطن عربي، ويعكس جراحه العميقة من مشاهدة حالة التشرذم والتناحر ضمن البيت العربي، واليوم ماذا تغير فعلا. هل نحن أفضل حالا من السابق. في مستهل عام 2011 ميلادي تبلورت حالة ما يسمى بالربيع العربي، ولكن قبل هذا وخلال كلمته الموجزة أمام القيادات العربية في مؤتمر قمة الكويت، أشار خادم الحرمين الشريفين محذرا إلى خطورة حالة الإحباط واليأس التي تستحوذ على المواطن العربي، فقد ناشد القيادات العربية الملتئمة في الكويت «باسم شعوبنا التي تمكن منها اليأس». فالقيادة السعودية كانت تدرك خطورة حالة الإحباط واليأس التي سيطرت على المواطن العربي. وقد تمنى خادم الحرمين الشريفين النجاح لقمة الكويت الاقتصادية، والأمل في قدرتها على تحسين وتخفيف المعاناة الاقتصادية التي يرزح تحت وطأتها المواطن العربي، وتمنى أن تتمكن القمة من تبني إجراءات عملية توعد بمستقبل اقتصادي أفضل، ولكنه، في نفس الوقت قام بالتذكير بأن الإنسان لا يحيا ويعيش على الخبز وحده، مذكرا أن الكرامة الإنسانية والحفاظ عليها تعادل أهمية لقمة العيش ، ولا يمكن إغفال متطلب الكرامة على حساب متطلب الخبر. لذا جاءت كلمة خادم الحرمين الشريفين بنبرة تحذرية حين أعلن «لكن الاقتصاد مهما كانت أهميته لا يمكن أن يساوي الحياة نفسها، ولا الكرامة التي لا تطيب الحياة بدونها». وقبل ستة أعوام قام خادم الحرمين الشريفين بتذكير المجتمعين من القيادات العربية بعظمة المسؤولية التي تقع على عاتقهم، حين أشار إلى مأساة المواطن العربي، حيث جاء اجتماع القمة العربية في الكويت في حينه في ضحى الاعتداءات الوحشية التي ارتكبتها القوات الإسرائيلية ضد مدينة غزة ومواطنيها، ومشاهد الوحشية الإسرائيلية التي رافقت عملية الغزو والعدوان والقتل والتدمير العشوائي الذي طبع العملية العسكرية. فقد ذكر في كلمته « شاهدنا في الأيام الماضية مناظر بشعة ودامية ومؤلمة ومجازر جماعية تنفذ تحت سمع العالم وبصره على يد عصابة إجرامية لا مكان في قلوبها للرحمة ولا تنطوي ضلوعها على ذرة من الإنسانية، لقد نسي القتلة ومن يناصرهم أن التوراة قالت.. إن العين بالعين.. ولم تقل التوراة.. إن العين بمدينة كاملة من العيون». واليوم ، ماذا تغير ، فقد تطورت الأمور إلى ما هو أسوأ بكثير . اليوم نجد أن المواطن العربي لا يذبح ويستباح دمه من قبل العدو الصهيوني حصرا ، بل إن استباحة الدماء ، والعرض، والمال تتم على أياد عربية ضد المواطن العربي الذي انتفض من أجل الكرامة وليس من أجل الخبز. فما يجري على الأراضي السورية اليوم من مجازر القتل والتدمير العشوائي أنكى مما حدث في الأراضي العربية المحتلة، وممارسات النظام السوري ضد الشعب الأعزل لا يمكن مقارنتها بممارسة العدو المحتل. فآلة القتل التابعة للنظام السوري لم تتجرأ على إطلاق رصاصة واحدة على العدو الإسرائيلي الذي يحتل الأراضي السورية منذ أربعين عاما. ولكنها كانت مستعدة ومنذ اليوم الأول لارتكاب المجازر المؤلمة ضد أبناء الشعب الأعزل. ومنذ اليوم الأول لانطلاقة مسيرة الربيع العربي حزمت قيادة المملكة العربية السعودية أمرها، وتوكلت على الله في اتخاذ قرارها الحاسم بدعم ثورة الشعب العربي من أجل الكرامة. وكان موقف خادم الحرمين الشريفين يستند على وجوب احترام إرادة الشعوب، وبغض النظر عن النتائج السلبية على مصالح المملكة كدولة، والتي قد تتولد نتيجة لظاهرة الربيع العربي. فقد كان القرار بتوفير ملجأ لرئيس تونس قد ساهم بوقف حمام الدم في تونس الحبيبة، وانتصار ثورة الشعب بأقل قدر من الخسائر، ونفس الموقف الداعم تم تبنيه تجاه ثورات الشعب في مصر وليبيا واليمن. واليوم تقف المملكة موقفا حازما في وجوب دعم ثورة الشعب السوري، ووجوب حماية دم وكرامة وعرض المواطن السوري. وهنا نعيد التذكير بفقرة من خطاب خادم الحرمين الشريفين قالها في حث القيادات العربية التي اجتمعت في الكويت على وجوب توحيد الصف العربي، واحترام كرامة المواطن «باسم شعوبنا التي تمكن منها اليأس أناشدكم ونفسي أن نكون أكبر من جراحنا، وأن نسمو على خلافاتنا، وأن نهزم ظنون أعدائنا بنا ونقف موقفا مشرفا يذكرنا به التاريخ وتفخر به أمتنا.» وكان تفاؤل خادم الحرمين الشريفين، وعمق حسن النوايا التي تعد جزءا أساسيا في تكوين شخصيته، قد قاد إلى إعلان آماله وتمنياته بأن يكون اجتماع الكويت فاتحة حقيقية لطي صفحات الخلافات والصراعات التي تعصف في بنية البيت العربي، وتقوض أسس التوافق، وتسمح بالتدخلات الخارجية واستباحة الوطن والمواطن. وهنا في نهاية كلمته عبر عن آماله التي يحلم بتحقيقها، حيث اختتم حديثه بالقول «ومن هنا اسمحوا لي أن أعلن باسمنا جميعا أننا تجاوزنا مرحلة الخلاف، وفتحنا باب الأخوة العربية، والوحدة لكل العرب دون استثناء أو تحفظ، وأننا سنواجه المستقبل بإذن الله نابذين خلافاتنا صفا واحدا كالبنيان المرصوص». النوايا والأماني التي عبر عنها خادم الحرمين الشريفين قبل أربع سنوات لم تتغير في جوهرها، وهي أماني وآمال كل مواطن عربي غيور على مستقبل الأمة وتطورها. وقد يكرر خادم الحرمين الشريفين هذه الأماني التي تدور حول وجوب وحدة الأمة العربية، ووجوب احترام المواطن العربي في توفير لقمة العيش، وتوفير مقومات الحياة الكريمة . فالثوابت لا تتغير برغم تغير الظروف، والثوابت لا تتبع أهواء المصالح الشخصية أو السياسية. ما قاله خادم الحرمين الشريفين في قمة الكويت الاقتصادية عام 2009 ميلادي لايزال يمثل ويعكس الثوابت التي آمن بها كإنسان مؤمن بدينه، وكقائد مسؤول أمام الله وأمام رعيته. * رئيس مركز الخليج للأبحاث.