وكأنه شاهد على العصر، بل هو كذلك.. أحد أبناء جدة القديمة وجدةالجديدة الأستاذ أحمد محمد باديب يتحدث من خلال حوارنا هذا معه عن السينما في جدة.. ليس من أجل استعراض نشاطها و«أحواش» العروض ورواد صناعة هذه العروض في جدة فيما قبل السبعينيات الميلادية، وهو الأمر الذي سبق أن استعرضناه معا في صفحات خلال الأشهر الماضية مع بعض ممن ما زالوا أحياء في المهنة، مثل مساعدي فؤاد جمجوم (رائد هذه المهنة)؛ كالعم عليان شعبين، عبدالله عبدالقوي، عبدالله أوتو، وفريد الحطامي. واليوم نلتقي مع أحمد باديب لنتحدث عن الكثير من متعلقات ذلك النشاط في تلك الفترة، مثل كيفية إدخال أدوات هذه المهنة؛ كآلات العرض وبكرات الأفلام، وهي تلك التي يكبر حجمها وليست سهلة التهريب إذا ما كان هناك قرار بمنعها رسميا! وكيف بدأ تعامل الناس وأهالي جدة تحديدا مع العروض السينمائية.. التقينا مع باديب في مكتبه في جدة، حيث قال بداية: معرفتي بالسينما كانت قديمة منذ 1950 وما تلاها، وهي مرحلة يفاعتي وبداية معرفتي بالحياة، وكانت السينما أيامها لم تبدأ عروضها الجماهيرية في الأحواش (كانت تحل محل دور العرض)، كانت البداية ونحن لما نزل أطفالا، وذلك في البيوت بل وأكبر بيوتات جدة.. أذكر ونحن صغار، تعاملنا مع السينما من خلال بيت الجمجوم من أهم بيوتات حارة المظلوم، ولنشاهدها كان علينا أن نتواجد في «سطوح» بيت جدي الذي يكشف على بيت الجمجوم لمشاهدة العروض التي كان يجتمع فيها عدد من الأسر والجيران في عروض عائلية، وكان من أوائل الأسر التي تعاملت مع سينما البيوت عائلة اللنجاوي (العم عبدالله لنجاوي)، والذي كنا نسميه العم عبدالله صغير، وهو والد كل من «حسين لنجاوي وسيدي حمد لنجاوي»، وكانت هذه العملية تتم بحكم القرابة بين بيتينا، فنحن أبناء خالة. ومتى كانت الانطلاقة إلى ما تعدى حدود المشاهدة المنزلية؟ تعلم أن أهالي جدة مرتبطون منذ جذورهم بالثقافة وبكل ما هو طارئ وجديد.. كما قال عمنا أحمد السباعي رحمه الله عنها: «جدة مدينة كل جديد». وفي تلك الفترة من الخمسينيات الميلادية كانت السفارة الأمريكية وموقعها في حارة الشام بجوار الخطوط السعودية وشركة أرامكو القديمة تعرض الكثير من الأفلام السينمائية، ولكن لم تكن مترجمة ونحن كنا مع الإنجليزية «يفتح الله»؛ لذا لم يكن أهالي جدة يذهبون إلى العروض الأجنبية، غير المترجمة رغم أن باب السفارة الأمريكية كان مفتوحا للجميع ثقافيا. إلى أن افتتحت السفارة المصرية في جدة، عندما كان ممثلها الاقتصادي الشاعر الكلثومي الكبير أحمد شفيق كامل رحمه الله، عروضا سينمائية للأفلام العربية والعالمية المترجمة في نفس الوقت لأبناء الجالية المصرية في جدة للترفيه، وكان هناك هدف آخر لاستقطابنا نحن السعوديين لإعطائنا مطبوعات عن القومية والناصرية وما شابه، في ظل تباين وجهات النظر بين القيادتين يومها «ولا أقول خلافا»، وهذا الخلاف أوصلنا مع مصر إلى عداء سياسي. ولهذا السبب كانت الجهات المختصة تهتم بمعرفة الذين يذهبون للسفارة المصرية بدواعي مشاهدة السينما . متى دخلت السينما بيت باديب تحديدا؟ في العام 1955، وعندها وعليك أن تعلم أنه لم يكن هناك قانون يحرم أو يمنع السينما تداولا وعرضا وإلى الآن كان عمي يعمل في الجمارك في مطار جدة، وأصبح يأتينا بالأفلام ولا سيما أفلام تلك المرحلة، وهي الاستعراضية والغنائية لفريد الأطرش، عبدالحليم، شكوكو، ليلى مراد، كاريوكا، وسامية جمال.. وغيرهم، وأصبحنا نعرض في بيتنا وندعو جيراننا في حارة المظلوم، ولا سيما المجاورين لنا بجوار جامع الشافعي، ومنهم محمد عبده وإخوانه عثمان وأحمد، وهم الذين كانوا من أصدقاء طفولتنا، والذين سكنوا مع والدتهم رحمها الله في بيت «عزاية»، عموما كانت معظم بيوت الأغنياء تعرض الأفلام لافراد عائلتها والجيران. نعرف أنها لم تكن ممنوعة، وفي الوقت نفسه، لم تكن مسموحة تلك العروض في البيوت أو جماهيريا. في رأيك كيف كانت تدخل مثل هذه الآلات الخاصة بالعرض والأفلام، وهي كبيرة الحجم، فكل فيلم كان في بكرات كبيرة من 4 إلى 6؟ لهذا قصص عديدة، فكان ذلك يتم في الغالب من خلال بعض الحجاج القادمين من أم الدنيا (مصر) الذين كانوا يأتون بصناديق خشب كبيرة تحوي أطعمتهم طوال الموسم، لقد كنا فقراء في المجمل في هذا المنحى ولا نملك تنوع الأطعمة التي لديهم.. هذه الأطعمة كانت عبارة عن الملوخية الناشفة، والبازيلاء، والفاصوليا، والنواشف، والشابورة، وكانوا يضعون في الغالب الأكياس التي تحوي بكرات الأفلام تحت هذه الأطعمة، وتجد أن بعض وكلاء المطوفين يستقبلونهم لمعرفتهم بالحجاج الآتين بهذه الجرعة الثقافية والترفيهية، ثم يشتريها منهم كثيرون ممن امتهنوا هذا العمل، مثل العم سليمان أبو صفية رحمه الله، وكان معروفا بالملاءة المالية يومها، وله علاقات قوية مع كبار السينمائيين في مصر، وكان لديه في منزله مكان خاص لتخزين الأفلام ومكائن العرض التي كان يخزنها هذه الأخيرة في بيوت كثيرين من علية القوم؛ كي يبتعد بها من الغبار والأتربة. هذا بالنسبة للأفلام، فكيف كان يتم تهريب آلات العرض، إذن؟ نعم لم يكن من الممكن تهريبها مع الأكل لحساسية الآلات كي لا تتحطم أو تحرق لمباتها؛ لذا كانت تتم عملية تهريبها وإدخالها إلى البلد عن طريق الكبار من علية القوم مستثمرين أن لا أمر واضحا بعدم إدخالها البلد، ولكن في نفس الوقت لم يكن متاحا لأي كان بإدخالها. ثم إنها كانت غالية الثمن، حتى أن الراحل فؤاد جمجوم أكبر العاملين في هذا الحقل عندما كانت تحتد وتيرة الخلافات بينه والمتدينة (وهذا كان الاسم الذي نطلقه على رجال الهيئة حتى قبل تأسيسها)، وكانت غالبا ما تحدث مشكلات.. كان جمجوم يستثمر علاقاته مع كبار القوم لإنهاء هذه المشكلات؛ لأن معظم هؤلاء كانوا عشاقا للسينما ومن المستأجرين لعروضهم العائلية أيضا.