سكن عقلي وقلبي منذ صغري رجل أحس بحيرتي فهون علي وشرح لي بهدوء، ورجل رأى جهلي وخطئي ففهمني بلا عتاب ولا احتقار، وامرأة ترفقت بي وبينت لي معنى موقف وحادثة بعيدا عن العيون والألسن. ويسكن نفسي كل انسان يحس بما لا يبوح به غيره ليفضي إليه برأيه ويشركه خواطره، لينصحه بلطف راق وسماحة أخاذة. أما من كان يقابلني وأقراني بضحكة ازدراء وبالسخرية من كل حركة وسكنة وبتأليب للآخرين وبإعلان لخطئي وبتقريع بلقب سخيف وصوت مزعج وباعراض بالعيون والوجه والجسم، فما بقي منه إلا تلك الهيئة الشاذة المنفرة، وما سكن عقلي وقلبي مهما ظن هو وغيره انه حكيم كبير وذو حظوة وقدر. الكلمات التي انحفرت في ذاكرتي وكياني من أحياء العقول والقلوب أولئك، زد عليها انهم علموني بلغة القدوة تقدير من أحسه محتاجا لعلم ولشرح ولدعم، وعلموني أن النصح بالرفق شطر كبير في الانسان الواعي الأمين، وأن المعاملة هي ميزان خلقي جميل له كفتان متعادلتان لا تفترقان، كفة تتقبل وتتفهم وكفة تقدم وتبين، بدونهما يدب في المرء الكبر والفظاظة. تجلس الى كثيرين لا قدرة لهم على الاصغاء والصبر، لا يعرفون الحلم واللطف كأنهم ما تعلموا شيئا في حياتهم. تشفق انهم مشوا الاعوام وقطعوا العقود ومروا بفرص وتجارب ولم يتغير فيهم إلا ملامح العمر، ويبقى المتلون متلونا والإمعة إمعة والثرثار ثرثارا والمتكبر متكبرا والمتطفل متطفلا، مهما كبر وشاب. كثيرون ما سمعت منهم أنا وغيري عبر عشرات السنين جملة مفيدة، ليس الا كلاما فارغا مكررا وسخرية وغيبة وحشوا مستهجنا، أقرب للصياح والهذيان والبذاءة أحيانا منه إلى الحكمة والوقار. فلينظر أحدنا لنفسه ألا يعيش جسدا لا يشارك غيره الا في الهواء والماء والطعام، وليستحب أن يترك ذكرى جميلة وأثرا ينفعه بعد مماته، فلا يكونن ممن تنفر منهم العقول والقلوب فكأنهم أموات يتحركون. فارس محمد عمر (المدينةالمنورة)