قال عنه الدكتور عبدالله مناع في تقديمه لكتاب (السنوات الأولى .. ترجمة حياة محمد حسن فقي): نشر عبدالمقصود خوجه 1415ه (1995م)، «.. فهذا الطفل.. الذي تيتم وهو في شهره السابع، وتخلت عنه مرضعته قبل أن يتم فصاله، وماتت مربيته البديلة قبل أن يتم عامه السابع، ثم لحقت بها أخته من الرضاع قبل أن يتم عامه التاسع، وعاين الوحدة والوحشه بين ثلاث أخوات كن في سن والدته.. ثم فقده لوالده لحظة تخرجه وخروجه من المدرسة إلى الحياة وهو في السادسة عشرة من عمره، هذا هو الشاعر الذي بكى وما زال يبكي تلك الأيام.. لقد حفزه (الحزن) على الدراسة والقراءة المبكرة.. بلغ الفقي الواحدة والعشرين من عمره: مدرسا محبوبا من تلامذته وزملائه، وقلما شابا واعدا، شجي الكلمة شاعرا.. (ليكتب في الصحافة المبكرة)، ويتلقى نصح مديره بالتوقف عن الكتابة لأنها تتنافى مع سمت العلم والعلماء.. ولكنه يواصل اتصاله بالمثقفين ليكون ثاني رؤساء تحرير (صوت الحجاز) وأصغرهم سنا.. نسبة إلى من سبقه ولحقه.. وبل وربما كان أصغر رئيس تحرير في عالمنا العربي.. في ذلك الوقت من مطالع الخمسينيات الهجرية والثلاثينيات الميلادية، لقد كانت تلك نقله نوعية في حياته، أخرجته من الانطواء والعزلة والانكفاء على الذات.. إلى عالم الصحافة والأضواء الصاخب بالأحداث..». وقال عن نفسه: «.. وأوحى إليه فكره الحدث وخياله المشتط وإحساسه المتقزز أنه منكود محارب ممن لا قبل له بحربه، فتشاءم وانعقدت بنفسه عقد كلفته في مستأنف أيامه ثمنا باهظا من النكد والحرارة والخيبة. وانقلبت حياته رأسا على عقب، وحالف القطوب والجهامة وجهه فما يبدو إلا متجهما كئيبا كأنما تظلله سحابة دكناء. واستحالت قواه كلها إلى إكباب على الدراسة والتحصيل. وإلى شغف غريب بالأدب والفلسفة والتاريخ، فما ترك كتابا حديثا ولا قديما إلا اقتناه والتهمه قراءة من الدقة ثم هجره إلى سواه بحسب ما تستطيع له مواده وأوقاته.. فقرأ وهو لما يعد الخامس عشر ربيعا من عمره معظم ما انتجه أدباء مصر وسوريا ولبنان والعراق والمهجر وحشدا ضخما من التراجم لكبار أدباء الغرب وفلاسفته ومؤرخيه.. في هذه الفترة الجياشة بأحلام الشباب وأمانيه نظم الفتى شعرا كثيرا وكتب عددا من القصص القصيرة وبحوثا أدبية جمة كان يغلب عليها طابع التشاؤم والحيرة، والشك وهو طابع عجيب في مثل هذه السن التي يغلب عليها التفاؤل واليقين والمغامرة... لقد أغمض عينه ليفتحها على الشهرة الهابطة فتزايد حماسه ونذر نفسه وقلمه وفكره للوعي الجديد.. فلفت نظر مدير مدرسته.. فلم يرقه موقف الفتى وخاف على مدرسته من عواقبه.. وضاعف من خوفه موقف الأساتذة، ولا سيما الشيوخ مما كان ينشر بقلم زميل اليوم وتلميذ الأمس القريب.. فأجمعوا على نصحه بترك الكتابة في الصحف.. وأراد الله خيرا فقطع دابر الشقاق وفتح له أبوابا جديدة من العمل كان لها أثر كبير في تغيير مجرى حياته.. فقد ارتأت الحكومة لأسباب سياسية اعتقدت يومئذ وجاهتها نقل عدد من الشباب الحجازي إلى الرياض بالمصمك، وكان من بينهم رئيس تحرير (صوت الحجاز)، وتدبر القائمون على إدارة الصحيفة أمرهم باستعجال خشية أن تقف عن الصدور.. وكان هناك شاب لا عيب فيه إلا حداثة سنه.. وقد تكون هذه الحداثة هي التي صرفت عنه الأنظار فنجا.. فليكن رئيس التحرير .. وهكذا كان وأصبح الشاب، فقد تعدى الآن طور الفتوة ولو في نظره على الأقل رئيسا لتحرير الصحيفة الشعبية الوحيدة حينذاك، ودخلت حياته في طور جديد.. ورأت إدارة المدرسة مجاملته فعرضت عليه القيام بتدريس حصتين في كل يوم، فقبل واشترط أن لا يتقاضى أجرا عليها.. وكاد يستقيم به الحال لولا الإرهاق الذي أضناه وأكل من صحته، فقد كانت الصحيفة تقوم على أكتافه وحده تحريرا وإدارة وتصحيحا فذوى جسمه، واستدارت دوائر سود حول عينيه.. والأزمة السياسية التي كانت مستحكمة قد انفرجت وعاد الشباب إلى مأمنه بعد أن تبين أنه برئ مما ألصق به من تهم كاذبة.. وهكذا اختمرت الفكرة في رأسه بعد اقتناع وانتهت به إلى قرار حاسم، فقدم استقالته من التحرير وأصر عليها وأقنع الإدارة بضرورتها بالنسبة إلى بنيته المتهدمة ونفسيته المتأزمة. ودلل لها على حسن نيته بترشيح بعض أصدقائه الذين يعتقدون أهليتهم.. لرئاسة التحرير والحلول محله.. وتعهد بأن يواصل الكتابة في الصحيفة كأديب ويؤازرها كوطني..». واختتم الكتاب عند بلوغه الأربعين فقال : «.. والأربعون هي قمة المنحدر يصعد إليها صعدا حثيثا فيما قبلها من السنين، فإذا افترعها أطل من حالق على ما يعج تحته من زحمة وضوضاء ومقالب ومزايا وقهقهة ودموع وظفر وخيبة ولهاث وراحة، ثم عاج إلى سجله يقلب صفحاته ويدقق حسابه ليعرف مبلغ الربح من الخسران قبل أن ينحدر من القمة إلى القاع. هل أدى دروه في الحياة أداء طيبا؟ هل كان عضوا نافعا في جسم المجتمع؟ هل وأد ضميره أم باركه وانصاع لتوجيهه؟ هل ألغى عقله وعاش كالسائمة، أم قدسه ورعاه؟ (.. حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك..)». وكان قد كتب هذه المادة بعد بلوغه الأربعين من عمره، ولم يعثر عليها إلا بعد مضي مثلها. [email protected]