أجرت المجلة العربية العريقة مؤخراً «دراسة» للتعرف على واقع القراءة الحرة في المملكة، وتحديداً بين السعوديين، كما ورد في جريدة الحياة الغراء في صفحة 25 من عددها رقم 18128 والصادر يوم الأربعاء 7 محرم 1434ه الموافق 21 نوفمبر 2012م. وأحسنت جريدة الحياة بوضعها كلمة «دراسة» (بين علامتي تنصيص) لأسباب عديدة، وحتى لا تكون مثارا لأي مآخذ أو انتقادات من جراء استخدام كلمة دراسة مجردة ليس فقط من علامات التنصيص، ولكن من الصفة العلمية أو أي صفات أخرى يمكن أن تتصف بها هذه الدراسة أو غيرها من الدراسات المماثلة. وللأسف الشديد، وقبل أن نلفت الانتباه حول بعض المآخذ المنهجية والمهنية سواءً لما ورد في هذا الخبر أو لما تضمنه من معلومات حول طبيعة ونتائج هذه الدراسة، لعله من المناسب هنا أن نشير ابتداءً بكامل التقدير والاحترام لكل من المجلة العربية وجريدة الحياة ولشخص الدكتور عثمان الصيني رئيس تحرير المجلة وللأستاذ سعد الخشرمي المحرر في الجريدة، وتتركز هذه المآخذ أو الانتقادات ليس فقط على هذه الدراسات فحسب بل على أغلب الدراسات المماثلة فيما يلي: أولاً: المآخذ المنهجية: 1. لم نقف على الجهة التي قامت بإجراء الدراسة وفقاً للخبر المنشور. فقد ورد أن المجلة العربية هي الجهة التي قامت بهذه الدراسة. وفي أغلب ظني أنه وإيماناً بالتخصصية فقد تم الإعهاد لإحدى المؤسسات المتخصصة في الدراسات أو المراكز البحثية للقيام بهذه الدراسة التي يفترض أن «مولتها» المجلة العربية التي هي مجالها الفكر والثقافة والأدب والنشر وليس إجراء مثل هذه النوعية من الدراسات. 2. بالإضافة لعدم ذكر الجهة أو المصدر الذي قام بإجراء الدراسة – وللأسف الشديد – فإنه لم يتم الإشارة إلى أي منهجية أو أسلوب يمكن أن يكون تم استخدامه في هذه الدراسة حتى تصبح جديرة بالإعلام أو الإعلان عنها بهذه الصورة. فما بني على حق لا يمكن أن يأتي بباطل، والعكس صحيح. والفيصل في الحكم على أي دراسة هو المنهجية المستخدمة والأسلوب المتبع فهما بمثابة خارطة الطريق أو بوصلة التوجه في دراسة أي أمر. 3. التأكيد على أن استخدام كلمة دراسة (وما أكثر الدراسات التي يشار لها في وسائل الإعلام الوقت الحاضر) تكون وللأسف الشديد مجهولة المصدر المنفذ لهذه الدراسات، علاوة على افتقارها لتحديد طبيعة أهدافها ومفاهيمها المستخدمة وتفاصيلها المنهجية حتى تصبح هذه الدراسة جديرة بالإعلام أو الإعلان عنها على الملأ سواءً في محفل جماهيري عام أو ملتقى نخبوي متخصص. 4. ومع كامل الاحترام والتقدير لأي جهود مبذولة إلا أنه لا يجب أن تأخذنا الجوانب الاحتفائية أو الظروف الاحتفالية لهذه الجهود بعيداً عن الأسس المعرفية السليمة والمضامين الفكرية الرصينة. فقد أدهشني تكرر ورود العديد من الأخبار عن الدراسات التي ما فتئت تطل علينا بين الفينة والأخرى بمعلومات ونتائج دون الاهتمام بالنظر إلى المعايير والمحددات الواجب توافرها في هذه الدراسات ليعتد بها كنتائج وأرقام ونسب يجوز نشرها أو بثها. 5. إن أي دراسة هي مجرد محاولة علمية مقننة للتعرف على حقيقة أمر ما وذلك وفقاً لمنهجية محددة وآلية معتبرة بعيداً عن أي أغراض أو أهواء قد تقود إلى الزلل أو التضليل سواءً المقصود أو غير المقصود. لذا يجب أن تبنى أي دراسة على أسس من الموضوعية والحيادية والصلاحية والدقة حتى يتم الانتفاع بها وتصبح قادرة على أولاً اكتشاف الواقع وتوصيفه ومن ثمة تفسيره. 6. لم يتم الوقوف في هذا الخبر على تحديد دقيق شامل ومانع لبعض المفردات المستخدمة سواءً في الحديث عن المملكة بمناطقها الثلاث عشرة ثم الحديث عن السعوديين فقط وكذلك الحديث عن القراءة الحرة والقراءة الرزينة والقراء والأميين وغيره، وأكاد أن أجزم أن طبيعة الوسائل المستخدمة والوسائط المختلفة سواءً من حيث الخصائص والمزايا والتأثير في من يتعامل معها تجعل من الصعوبة بمكان إيجاد تحديد دقيق بين ما هو مقروء نصاً وصورة ورسماً على الورق وبين ما هو متصفح قراءة ومشاهدة وتفاعلاً وربما استخداماً لحواس أخرى. 7. هناك فرق كبير بين الرصد أو الحصر الشامل وما بين استخدام عينة منتقاة وممثلة لمجتمع أي دراسة. ولا يرتبط الأمر فقط بالكم العددي من حيث الحجم، ولكن أيضاً بالتمثيل النوعي من حيث الكيف، وما لم تكن العينة المستخدمة في أي دراسة ممثلة تمثيلاً إحصائياً مناسباً لكافة فئات مجتمع الدراسة لا يمكن التعويل عليها في مطابقة الواقع حتى وإن لامست جزءاً من جوانبه، إلا أنها بالتأكيد لا تلامس الدقة فيه. فقد أفزعني أن الدراسة استخدمت عينة مكونة من أكثر من عشرة آلاف فرد، بل وزادت عن ذلك ب20% معبرة «عن الفاقد من الاستبانات والأعداد المحتملة من الأميين» وكان الأمر بالعدد أو «الكم» فقط فلا قيمة لأي زيادات في الأعداد ما لم تكن هذه الأعداد ممثلة إحصائياً ونوعياً لمجتمع الدراسة. ومما هو متعارف عليه علمياً أن أنسب أعداد العينات الممثلة إحصائياً عادةً ما يتراوح ما بين 1400 إلى 2800 مفردة على أقصى تقدير، اعتمادًا على درجة التجانس أو عدم التجانس في مجتمع الدراسة، وأي زيادات محتملة يتم توظيفها لفئات محددة ولكن ليس بزيادة تقدر بأربعة أضعاف كما حدث في هذه الدراسة. 8. كما أن طريق اختيار كل مفردة على حدة من مفردات العينة أمر في غاية الأهمية تفادياً للانتقائية والتحيز في اختيار فئة عن فئة أو تغليب مجموعة على أخرى حتى وإن كان أعداد المفردات كافيا أو مناسبا. وتجدر الإشارة هنا إلى أن الاختيار الخاطئ في اختيار العينة يعصف ليس فقط للتمثيل الإحصائي والنوعي لمجتمع الدراسة، ولكن أيضاً إلى التوجه والانحياز لنتائج غير صحيحة وغير دقيقة، فعلى سبيل المثال لا الحصر إذا كان أغلب أفراد العينة ممن يستخدمون الانترنت مثلاً بالتأكيد ستكون النتائج متحيزة لمستخدمي الانترنت. 9. إن إطلاق العديد من الأرقام والنسب دون اهتمام بالدلالات الإحصائية والتحليلات التفسيرية يستوجب التحري والتحفظ على سلامة وصحة ودقة هذه الأرقام والنسب عبر ثلاث مراحل أساسية من الإعداد للدراسة وتنفيذها وحتى بعد الانتهاء منها من خلال التدقيق في سلامة الإجراءات المستخدمة وصولاً إلى تلك النتائج ويجب الفصل هنا بين الجهة المنفذة والجهة المدققة لهذه النتائج والجهة الاستشارية للإجراءات الفنية. ثانياً: المآخذ المهنية: 1. حتى يتم استخدام أي دراسة يعتد بها في جميع أنحاء العالم، لا بد من وجود جهة أخرى محايدة لاعتماد النتائج النهائية وتحديد صلاحية النشر العام أو الخاص لهذه النتائج. وفي جميع أنحاء العالم عادةً ما تتكون هذه الجهة من ممثلي الأطراف الأساسية للصناعة الإعلامية من مهنيين وممارسين يتم اختيارهم كلجنة مهنية محايدة تحرص على الارتقاء بالمهنة وتخدم أغراضها. ومن حق أي مؤسسة أو دار نشر بالطبع إجراء أي دراسة تروق لها إلا أن الحديث هنا عن القابلية للنشر العام. 2. عادة ما يتم الاستفادة أيضاً بجهة مدققة حيادية لتدقيق الإجراءات سواءً أثناء التنفيذ وفقاً لما خُطط له أو ما بعد التنفيذ للتأكد من سلامة المعلومات ودقتها وهو شركات متخصصة في تدقيق النتائج عالمية وإقليمية للتأكد من ذلك. 3. إذا انحصرت العلاقة بين دار النشر أو الجهة المخولة للدراسة والجهة المنفذة فقط دون وجود جهة استشارية فنية للتأكد من سلامة العرض والإجراءات المنهجية لدراسة تحصر العلاقة بين طرفي مصلحة دون وجود جهة فنية فاصلة بين رغبات ومصالح كلا الطرفين. إن جميع ما تم ذكره أعلاه يمثل المآخذ أو المسالب التي تعاني منها ليس فقط الدراسة المنشورة ولكن أغلب دراسات وسائل الإعلام في المنطقة العربية بأسرها. فقد ظلت هذه الدراسات حبيسة أو رهينة لحد الكفاف لما هو متعارف عليه منهجياً ومهنياً طوال العقود الأربعة الماضية. وعلى الرغم من وجود بعض العلامات المضيئة طوال الفترة الماضية إلا أنها على قلتها تكاد تتلاشى أو تتراجع بما لا يبشر بأي خير. وهذا ما لمسناه في تفسخ اللجان المهنية المتخصصة من فترة لأخرى، علاوة على الهجوم الضاري والتنافس السلبي بين أعرق المؤسسات الصحفية على وجه خاص أو الإعلامية على وجه عام وما أشبه الليلة بالبارحة فعندما تهاجم مؤسسة صحفية الأخرى دون أن تقدم حلولاً ناجعة على مدار العقود الماضية سواءً بشكل مؤسسي أو بشكل مهني من خلال هيئة كهيئة الصحفيين السعوديين فمن الخير لهؤلاء أو تلك إضاءة شمعة على لعن الظلام. وأذكر ذلك ليس دفاعاً عن الورقية، فللورقية مؤسسات ودور نشر وطباعة يفترض أن تحميها وتتنافس عليها تنافساً علمياً إيجابياً يزيد من رقعة الخير على تجفيف المنابع. وأطالب كافة المؤسسات الصحفية والإعلامية بأن ترقى لتطلعات العاملين فيها والمستفيدين منها ليس فقط بتخصيص المزيد من الأموال لدراسات الوسائل، ولكن للقيام بواجباتها المهنية ومسؤولياتها الأخلاقية في دعم وتأسيس وبذل المزيد من الجهد والوقت في إيجاد كيانات مهنية متخصصة تسعى للارتقاء بصناعة الوسائل الإعلامية والإعلانية، كما أهيب بوزارة الثقافة والإعلام أن تعين على ذلك دون أن تكون طرفاً مباشراً فيه أو متحيزاً لفئة أو وسيلة أو منطقة دون الأخرى وأن تشجع المبادرات الجادة في ذلك حتى يقوم كل قطاع بمسؤولياته تجاه منظومة الثقافة والإعلام على المستوى المحلي السعودي الذي للأسف الشديد لا يزال يعاني من تحديات كثيرة. * خبير واستشاري وسائل الإعلام وأستاذ وسائل الإعلام المساعد قسم الإعلام - كلية الآداب والعلوم الإنسانية جامعة الملك عبدالعزيز بجدة