... والمقصود بيانه أنه قد يقرأ موضوعاً منشوراً - مثلاً - في مطبوعة طبية متخصصة طبيب متخصص ويقرأه في الوقت ذاته شخص آخر، لم يتخرج في كلية طب حقيقية تعترف بها الجمعيات المهنية، حتى لو كان هذا القارئ غير المتخصص لديه خلفية علمية ولغوية تكفي لفهم كل عبارة أو مصطلح ورد في متن الموضوع، ومع ذلك فقد يصل كل من القارئين القادرين على فهم كل ما جاء في ثنايا الموضوع إلى نتائج مختلفة اختلافاً جوهرياً. ******* لماذا؟ لأسباب كثيرة. وقد يكون أهمها أن هذه طبيعة المعرفة الحقيقية المبنية على أسس منهجية مهنية، إذ إن جزءاً مهماً من دراسة الطبيب مثلاً ومن تدريبه العملي تمكينه من استنتاج النتائج الذي أراد كاتب الموضوع المهني المتخصص إثباته أو نفيه. وهذا ما لا يقدر عليه غير المتخصص، مهما كانت درجة او سعة معرفته. ويعود ذلك إلى أن قراءة الموضوعات المتخصصة جزء من حياة المتخصص المهني منذ أنهى دراسة تخصصه وبدأ بتطبيق شيء مما درس. وهذا يُسَهِّلْ عليه العودة إلى المراجع لمعرفة كيفية الحصول على النتائج المذكورة، ومدى التوافق أو الاختلاف بينها وبين ما سبق للمتخصص الاطلاع عليه من دراسات سابقة. والمتخصص أيضاً يستطيع أن يميز بين جودة ما هو أمامه وما سبق نشره من موضوعات متشابهة والمقارنة بين النتائج المماثلة أو المتناقضة. ******* وهذا ليس صحيحاً فقط بالنسبة إلى الموضوعات العلمية الطبية فقط، ولكنه أيضاً صحيح بالنسبة إلى كل موضوع مهني آخر. فالمحامي المهني قد يفهم شيئاً غير الذي يفهمه القارئ المثقف المتخصص في حقل آخر من قراءة الموضوع نفسه الذي فهم كل مفرداته وعباراته، كل عبارة على حدة، المثقف الذي لم يمر بدراسة منهجية في حقل القانون. والشيء نفسه يمكن قوله عن قراءة مقالات متخصصة في حقل «المحاسبة». فطالب علم الاقتصاد وطالب علم إدارة الأعمال، وغيرهما، ربما سبق لهم أن درسوا من حقل المحاسبة ما يكفي لمعرفة معنى المصطلحات المحاسبية. ومع ذلك يبقى فهم غير المتخصص منقوصاً مقارنة بفهم المحاسب المهني. ويرى طالب علم الاقتصاد يومياً مقالات، كما لا أشك يرى غيره من المتخصصين ومن المجربين، أقوالاً تخالف المقصود، مما نشرته جهات كمصلحة الإحصاء أو مؤسسة النقد، أو وزارة الصحة. وهذا لا يحصل عندنا فقط ولكنه يحصل في معظم دول العالم. والسبب هو المنافسة المحمومة بين وسائل الإعلام التي يدفعها الحرص على السبق الى نشر كل ما يهم العدد الأكبر من الناس. وكثيراً ما يكون السبق على حساب الدقة. فالهدف الأهم هو زيادة عدد جمهور هذه الوسيلة الإعلامية أو تلك. فكم قرأنا أو سمعنا، وسنقرأ وسنسمع، عن نتائج علمية طبية، خاصة عن علاقة أو عدم علاقة الغذاء أو الشراب بأمراض السرطان أو أمراض القلب والشرايين، يناقض بعضها بعضاً. وإن لم تكن متناقضة فربما كانت مبنية على تجارب لم يتم إجراؤها بدرجة تضمن دقتها كنقص العدد عن الكم الذي يرضي شروط علماء الإحصاء، أو أن تكون العينة لا تمثل بقية من كان ينبغي أن تمثلهم، وهلماجرّا. ******* والحديث هنا ليس عن مزاعم الجهلة أو المشعوذين الذين يستغلون مصائب المرضى وذويهم. وإنما عن أقوال قد تنقلها وسائل إعلام محترمة لها درجة من الموثوقية نقلتها عن جهات متخصصة علمياً أو ميدانياً. فالصعوبة تكمن في أن مصادر الإعلام بطبيعتها نادراً ما يكون بين منسوبيها متخصصون متابعون يستطيعون العودة إلى مراجع أخرى، أو يكون لديهم الوقت للاستقصاء من مصادر ما نشر أو قيل للتحقق من معنى المراد مما نشر أو قيل. والله من وراء القصد. * أكاديمي سعودي