فيروز في الثامنة والسبعين من عمرها. قد يكون الخبر عاديا لو أنه لا يتعلق بالمرأة التي كلما غنت تكفلت بمحو معالم الزمن عن الوجوه والأفئدة والأعمار. وكيف يمكن أن نصدق أن هذا العمر الذي هو عمر الشيخوخة بامتياز يمكن أن يحفر تجاعيده على ملامح شاعرة الصوت ويحملها على الذبول التدريجي كما يحدث للبشر العاديين. إذ لطالما بدت لنا سفيرتنا إلى النجوم مصنوعة، كما الفن نفسه، من مادة غير زمنية، ومن تحالف نادر بين الجسدي والروحي، وبين ذهب الصوت وبريق الفقدان. لقد تمكنت فيروز في تحالفها الاستثنائي مع الرحبانيين أن تحول لبنان، بل والعالم العربي برمته، إلى مساحة للنشوة والفرح والترفع عن الضغائن والتنابذ الأهلي ووحول التخلف المزمن. فالوطن هنا لا يتشكل من محدودية الجغرافيا ولا من الوجوه المرئية للواقع الفظ، بل هو متحقق بقوة المخيلة وطزاجة الحلم وجمالية الاستشراف، وحين ينقسم الناس شيعا وأحزابا ومذاهب وزواريب ينهض ذلك الصوت المنقوع برحيق البلابل ونسيج السواقي ليحملنا كل طالع شمس إلى حيواتنا البديلة ومساقط أرواحنا التي لا تذبل. فالصباح الذي لا يستهله صوت فيروز صباح مبتور ومسلوب النضارة وقابل للتخثر. لذلك لا بد من صوتها لكي تشرع العصافير بالزقزقة والشمس بالسطوع والأنهار بالجريان والبشر بالذهاب إلى أعمالهم. «تعا تا نتخبَّا / من درب الأعمار»، تعلن فيروز في إحدى أغنياتها، ثم تتابع الإنشاد «إن سألونا وين كنتو/ ليش ما كبرتو إنتو/ منقلُّن نسينا». هذه الدعوة إلى النسيان ليست لتعطيل الحياة أو إلغاء الطموح والأمل، بل لمحاكاة الطبيعة في انسيابها التلقائي والانزلاق على ثلوج الزمن، كما فعل «شادي»، وهو يقطع البرزخ الأسطوري الفاصل بين الحياة والموت. وليس من حالة نختبرها إلا ولها ما يعادلها في الأغنية الفيروزية. فقد تصرخ المرأة بمن تحب «حبيتك بالصيف/ حبيتك بالشتي». وقد يحملها خداعه لها على التمرد والانسحاب فتهتف به «لا إنت حبيبي/ ولا ربينا سوا». وقد يرى الثائرون على الاستبداد في «ناطورة المفاتيح» و«جبال الصوان» ما يشدون به أزر عزائمهم على طريق الثورات. وقد تتفتح في ظل صوتها الزهرة الوحشية للحرية، وتقصر الطريق نحو زهرة المدائن. فيروز في الثامنة والسبعين من عمرها. لا بأس، فليس هذه المرأة ميلاد واحد أو عمر بعينه، لأنها قابلة الولادات والحارسة الدائمة لوعود المستقبل.