دعاني صديقي الدكتور عبدالعزيز بوكر أستاذ التخدير في كلية الطب بجامعة الملك عبدالعزيز لزيارة مختبر المهارات السريرية في الكلية. أمضيت معه نحوا من ساعتين في جولة في المختبر وهو مشروع حق لجامعة الملك عبدالعزيز أن تفخر به وأن تحذو بقية الكليات الطبية الحكومية والأهلية حذوه. خاصة وأن أغلب العاملين فيه من الشباب الذين تدربوا فيه. يحتل مركز المهارات العديد من الصالات والردهات والغرف التي تزخر بأجهزة الكمبيوتر والدمى البلاستيكية والأجهزة الإلكترونية. بواسطتها يستطيع طالب الطب والعلوم الطبية أن يتدرب على جميع المظاهر والأعراض المرضية التي قد تصادف الطبيب في عمله. على سبيل المثال لا الحصر يمكن للطالب أن يتدرب على فحص وتشخيص مريض بالقلب أو توليد سيدة حامل أو إسعاف جريح ينزف أو تخدير مريض على طاولة العمليات أو على سحب الدم أو فحص قاع العين أو الإسعاف الأولي وإنقاذ الحياة أو خياطة الجروح، وبهذا لا يذهب الطالب لفحص المريض أو التعامل معه إلا وقد تدرب على هذه الدمى والأجهزة. هي خطوة متقدمة بلا مراء في عالم التعليم الطبي تطورت خلال العقود الثلاثة الأخيرة. كنا في جيلي والأجيال التي سبقت قبل أن تعرف الإنترنت والواقع الافتراضي والصور ذات الأبعاد الثلاثة، نحفر في الصخر في تدريبنا الطبي في المستشفى. كنت تجدنا مجموعة كبيرة من طلبة الطب نلتف حول أستاذنا وهو يشرح لنا حالة مريض فلا نكاد نظفر بفحص سريع للمريض إلا بشق الأنفس. واليوم يستطيع الطالب أن يتدرب على الدمى والأجهزة الالكترونية مرات ومرات قبل أن يفحص المريض في سريره. كنا نشتري الجثة من فراش المشرحة يحضرها إلى البيت وينظفها مما علق بها من جلد وعضلات حتى يخلص لنا الهيكل العظمي وهو القاعدة التي نستند إليها في دراسة التشريح. وعندما جاءت أمي تزورنا في القاهرة وشاهدت العظام تحت السرير غضبت منا كيف نأكل ونترك العظام تحت الأسرة، ولما علمت أنها عظام ميت كاد يغمى عليها. واليوم يستطيع طالب الطب أن يفحص كل عضو من أعضاء الجسم البشري بأبعاده الثلاثة وبالألوان يقلبه ذات اليمين وذات الشمال وربما دخل إلى القلب فجاس خلال غرفه الأربع بتقنية الواقع الافتراضي. أذكر أني عندما دخلت امتحاني الأخير في الأمراض الباطنية كان علي أن أفحص وأشخص حالة مريض لديه هبوط في القلب. وكانوا يجمعون لنا المرضى المزمنين الذين يترددون على المستشفى الجامعي لنؤدي امتحاناتنا عليهم. سألت مريضي ما بك؟ قال: لا شيء، قلت: مم تشكو؟ قال: من لا شيء، قلت له: ما الذي أتى بك إلى المستشفى؟ قال لا شيء. وهنا تذكرت ما قيل لي من أن هؤلاء المرضى المزمنين لا يفضون للطالب بشيء إلا إذا نفحه بجنيه يوم كان الجنيه يطعم أسرة لمدة يومين. وعندما أعطيته المعلوم سرد لي تاريخه المرضي مع أعراض ومظاهر المرض بأسمائه اللاتينية مما وعته ذاكرته من حوارات سبق أن دارت بين الأساتذة والطلاب الممتحنين. وفي ندوة عن أهداف ووسائل التعليم الطبي الحديث حضرتها مؤخرا بكلية الطب في شيكاغو، طلب المشرف على الندوة من بعض الأطباء المشاركين في الندوة أن يفحصوا سيدة فوجدوا إحدى رئتيها متوقفة عن العمل. ثم دعاهم لفحصها مرة أخرى فوجدوا رئتها المعطلة أصبحت طبيعية... وإذا بها ممثلة تدربت على أن توقف إحدى رئتيها عن العمل لتكسب بعض رزقها من فحص طلاب الطب لها. ولله في خلقه شؤون.