لا يمكن للناقد المتبصر أن يرى العلاقة بين الفنون بوصفها علاقة تنابذ أو عداء أو محاولة إلغاء متبادل. ذلك أن أية نظرة متفحصة في طبيعة الفنون ومسارها التاريخي لابد أن تقود إلى الاستنتاج بأنها جميعا تنبثق عن جوهر واحد هو الرغبة في إعادة تشكيل العالم وفي تضييق المسافة بين المرئي واللامرئي، كما بين الواقع والحلم. ولا شيء أكثر من الفن يمكن له أن يجعل الحياة على الأرض أكثر قابلية لأن تعاش وأن ينتصر لكل ما هو عادل ومضيء وحقيقي في عالم مكتظ بضغائنه وماديته الفظة. كل فن من الفنون يجهد على طريقته في تليين قسوة العقل ونظام عمله الصارم مفسحا المجال أمام القلب لكي يصنع بخفقانه الدافئ المظلة التي تعصم الإنسان من الاستسلام لفكرة الموت، ولكي يرفع منسوب الحب إلى حدوده القصوى. تشتغل الموسيقى على التواتر الإيقاعي المجرد من الكلمات، ويشتغل الرسم على اللون والخط، ويشتغل الشعر على اللغة والتخييل والإيقاع في سياقاته المختلفة، ويشتغل الرقص على الجسد، والرواية على لغة السرد. لكن الخيط الموصل بين هذه الفنون لم ينقطع أبدا ولن يجد في يوم من الأيام سبيله إلى الانقطاع. فالإيقاع على سبيل المثال مشترك بين الموسيقى والشعر والرقص والرسم، حيث يتحول عند هذا الأخير إلى إيقاع بصري. والمسرح يفيد من الشعر والرواية والرقص والرسم. والشعر يأخذ من المسرح بعده الدرامي وتعدد أصواته ومن الرسم إيحاءاته اللونية ومن الموسيقى إيقاعاتها المختلفة. ولربما بدا الشعر على وجه الخصوص الأقدر على العطاء غير المحدود، لأنه وقبل أن يكون كلمات منظومة روح العالم المبثوثة في الكائنات والأشياء، ولأن الفنون من دونه لن تكون سوى وجوه متخثرة للمهارة والتكلف. الحديث عن «النص المفتوح» بهذا المعنى ليس مجرد افتئات على الحقيقة، تماما كما حال النص المركب. وفي تاريخنا الفني ما يشهد على ذلك حيث ارتبط الشعر بالغناء والمسرحة الإنشادية والبنية السردية، وارتبط الخط بالرسم والنقش والزخرفة، وما إلى ذلك من تواشجات. لكن النص المفتوح لا ينبغي أن يكون مسوغا للرداءة والفوضى واختلاط المفاهيم. كما أن الهوية المركبة للفن ينبغي أن تكون إغناء له وتضافرا خلاقا بين أكثر من نمط إبداعي، لا محاولة لخلط الأوراق وتهجين الكتابة وضرب الهوية من أساسها.