لعلكم تتذكرون ما سبق مسلسل (عمر بن الخطاب) من تجاذبات سالت معها دموع الفضيلة أسى وهجوما عليه، وامتلأت الصحف والقنوات دفاعا عنه، انتهت جميعا إلى الدعاية المجانية له، ولعل من المناسب بعد عرض العمل وهدوء العواصف المثارة حوله أن أتحدث عن لغته التي عبر بها إلينا، مؤملا أن أستطيع إحداث ضجة مماثلة أو أجد صدى للمردود اللغوي لهذا العمل الدرامي،أو أصيب اللغويين بعدوى التجاذبات ليخلقوا لنا حراكا لغويا (كما يفعل الليبراليون والإسلاميون) بعد أن نعت المجامع الحس اللغوي الراحل وندبت جماله الزائل، وعشمي قول الأول: تثاءب عمرو إذ تثاءب خالد بعدوى فهل أعدتني الثوباء وللحق فقد تميز العمل بلغة فصيحة راقية أقامت العربية بعد أن هشمتها المسلسلات التهريجية الرمضانية السامجة لغويا، ولكن إذا كان العمل قد نال إجازة شرعية لخمسة علماء شرعيين (وكان أحدهم كافيا) فلماذا لم يتمم عقد الجمال فيه بعالم لغوي متخصص يضاف للمفتين الخمسة؛ ليجعل للغة اعتبارها ووقارها؟ وليس هذا المطلب ترفيا ولكنه ضروري؛ لأن المسلسل يتحدث عن (قريش) وأهل المدينة (الأنصار) وقبائل (بكر) و(تغلب) و(تميم)، وهذا التنوع المكاني والقبلي يستدعي عدم الالتزام بأنموذج لغوي واحد، لاسيما إذا كان المسلسل مبنيا على استحضار التاريخ في المكان والملبس وهيئة الممثلين، بل حتى السمت العمراني لكل قبيلة أو مدينة، فلماذا اختفت المحددات اللهجية فيه ؟ ألم يعلم المؤلف والمخرج أن اللهجة (اللغة) كانت في ذلك الوقت تمثل صورة لا تقل عن صورة المكان في النص؛ بل تشكل رمزا يمكن من خلاله معرفة القبيلة وانتمائها، ولها دلالة سيميائية لا تنفك عن الشخصية؟ ثم إن إغفال التوزيعات الصوتية التي تناسب كل قبيلة كان غائبا، والمعلوم تاريخيا أن القبائل العربية كانت تحوي تجمعات صوتية مختلفة، فنطق تميم يختلف عن قريش، وحديث مسيلمة ومالك بن نويرة وسجاح يختلف عن خالد بن الوليد وأبي بكر وعمر. ولغة قريش بعامة لم تكن الأفصح والأفشى كما اتجه العمل الدرامي، والدليل قول عمر (رضي الله عنه) للرسول (صلى الله عليه وسلم): (مالك أفصحنا ولم تخرج من بين أظهرنا) مما يعني أن في القبائل من هو أفصح من قريش. نعم ألتمس للعمل عذرا في أنه اتجه للغة المشتركة، ولكن لابد أن يعلم المخرج والمؤلف والمنتج أن العرب لم تكن بينهم لغة مشتركة أو مثالية متفق عليها، كما أنه ليس من الطبيعي أن تتساوى طبقات المجتمع في درجاتها فلا تستوي لغة العبيد والأحرار، فينبغي أن تكون لغة بلال ووحشي غير لغة أبي لهب وعبدالمطلب. وأخيرا يظل هذا العمل الدرامي بعربيته أحد روافد المعرفة اللغوية لدى أبنائنا الذين غابت عنهم اللغة وأغارت عليهم العجمة وجفت ينابيع الأصالة من نفوسهم وما دونته هنا هو كقول السابق: ولم أر في عيوب الناس عيبا كنقص القادرين على التمام وألقاكم. رئيس النادي الأدبي الثقافي بجدة. [email protected]