العقلانية مصطلح قديم لا يفتأ يتجدد ويظهر نفسه في كل حقبة تاريخية في مظهر مختلف. العقلانية أيضا مصطلح واسع جدا بحيث يكاد يشتمل على كل الأنشطة البشرية التي يصدر فيها السلوك عن ملكة العقل، وهو من جهة أخرى مصطلح ضيق جدا بحيث يقتصر على مذهب معين يختلف عن بقية المذاهب التي ليست بالضرورة «غير عقلانية» . قبل الشروع في الحديث عن تعريف العقلانية بالمعنيين الواسع والضيق، قد يكون من المفيد لو توقفنا عند المعنى اللغوي للعقلانية. عربيا لا يخفى أصل الكلمة؛ فهي مشتقة من «العقل» . لكن في التراث القديم سوف لن نصادف هذه الكلمة تحديدا، بل كلمة أخرى تعد مرادفا لها: العقلية أو العقلي. ورغم إنه لا فرق لغويا بين المصطلحين، إلا أن بعض اللغويين والمترجمين العرب يفرقون بين العقلانية والعقلية باعتبار الأولى دلالة على مذهب فلسفي معروف في تاريخ الفلسفة، والثانية مجرد صفة يمكن إطلاقها على كل سلوك نابع من العقل. على أن هناك كلمة أخرى غير «عقلي» أو «عقلاني» وهي كلمة «عاقل» ، وهذه الكلمة ليس لها علاقة بموضوعنا اليوم فهي مجرد مصطلح ثقافي لوصف السلوك الفردي في المجتمع، ويراد منها أن يكبح أو «يعقل = من عقال البعير» المرء شهواته وانفعالاته لكي ينسجم سلوكه مع قيم المجتمع، فيوصف المرء عندها بالعاقل حتى ولو كان مؤمنا بأفكار غير عقلانية. الكلمة اللاتينية للعقلانية «راتيوناليزيوم» مأخوذة من «راتسيو» بمعنى النسبة أو العلاقة، وهي أصل المصطلح في اللغات الأوروبية اليوم. والعلاقة المرادة هنا هي العلاقة التي تقوم بين طرفين في قضية منطقية أو حكم منطقي. والعلاقة المنطقية ذات طابع عقلي، أي موافق للعقل. العقلانية كما قلنا لها معان كثيرة. منها ما هو واسع جدا، وفي هذه الحالة يكون معنى العقلانية هو الانطلاق من ملكة العقل في إدارة السلوك والفعل ونوعا ما في إصدار الأحكام. إنها صفة للتفكير المنظم والمتسلسل من مقدمات عامة إلى نتائج لازمة، وهذا التفكير المنظم يسيطر على المجالات العملية والسلوكية أكثر من التأملية والعلمية. ولذا يمكن اعتبار مصطلح «العقلنة» عند ماكس فيبر نوعا من هذا التفكير البيروقراطي المرتب. وهنا تقترب العقلانية بهذا المعنى العام من المعنى العربي في أصله الاصطلاحي.. فحسن التدبير للمرء الفرد يقابله التخطيط الاستراتيجي والمنهجي للمجتمعات والمدن ونحوها في عرفنا اليوم. إذن فهذا التعريف الأول للعقلانية بوصفها نشاطا للعقل البشري وانطلاقا منه في التدبير والسلوك والتخطيط يمكن أن نسميه بالعقلانية العامة المشتركة. التعريف الثاني للعقلانية أقل سعة من التعريف السالف. إنها العقلانية المذهبية، أو العقلانية بوصفها مذهبا أو علما على مدرسة أو مدارس فكرية معينة. وفي تاريخ العلم والفلسفة يعد المذهب الحسي أو التجريبي هو المذهب المعارض للمذهب العقلاني. هنا تتحول بوصلة الدلالة؛ فلم تعد صفة العقلاني أو العقلاني تطلق على السلوك بل على الأفكار. وللدقة فهي مدرسة إبستمولوجية: تتساءل عن أصل المعرفة: هل هو العقل أم الحس؟، وبالطبع فهي تؤكد أن العقل هو أساس المعرفة.. في المقال القادم سنحدد طبيعة المعنى الثالث للعقلانية، ثم سنتخذ من مسار العقلانية في الفكر العلمي والفلسفي القديم بشقيه اليوناني والعربي نموذجا للأضرب الثلاثة. للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 118 مسافة ثم الرسالة