حين تشرق شمس المعرفة على عتمات الجهل والتخلف فإنها تمنح العين مساحة للنظر والتدبر والاختيار، ولكل دينٍ أو منهج فكري أو فلسفي أو حركات عملية أو خطاب فكري، مرجعيات أساسية تتكفل بصياغته وتحديد أهدافه وآلياته وتمنحه كوة يطل من خلالها على المعرفة، فهو يعتمد على تلك المرجعيات في حركته ويعود إليها كلما احتاج، كما أن له أولويات محددة وأفكار أساسية، وهذه العناصر مع غيرها تشكل مجتمعة ما يمكننا تسميته ب «الخطاب». الخطاب مصطلح ألسني حديث له أصول قديمة تتوزع على خارطة اللغة والفلسفة والمسافة بينهما، وهو أيضاً ذو دلالات حديثة ومتطورة. وبعيدا عن الاستقصاء البحثي الأكاديمي الذي لا يناسب عادة المقالات الصحفية فإن مصطلح الخطاب على المستوى اللغوي العربي مصطلح مشحون بدلالات، الغرض والشأن (قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه.)، وبدلالة الكلام حيث (الخطاب والمخاطبة مراجعة الكلام) لسان العرب، وبدلالة السلطة كذلك (وشددنا ملكه وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب) والسلطة ليست السلطة السياسية فقط بل هي متعددة الأشكال والتجليات. أما على المستوى الفلسفي فنجد أن الخطاب قد انحصر منذ السفسطائيين وسقراط في حدود المعنى أو بشكل أدق في (تخليص المعنى مما هو ظني ونسبي ومتغير) وذلك للحصول على القطعي والمطلق والثابت. ولئن كانت هذه بعض الدلالات الأولى والإرهاصات المبدئية، فإن مصطلح (الخطاب) قد تطور في العلوم الألسنية الحديثة حتى أصبح علما قائما بذاته له موضوعاته وأصوله وقواعده ومناهجه، تنتسب إليه وتبحث فيه مدارس متعددة وفلاسفة ولغويون كبار على مستوى العالم وبكثير من اللغات. وقد أصبح مصطلح الخطاب بذلك مشحونا بدلالات أوسع وأشمل وأدق من مجرد الدلالات اللغوية والفلسفية القديمة، فأصبح عبارة عن (عملية عقلية منظمة تنظيما منطقيا، أو عملية مركبة من سلسلة من العمليات العقلية الجزئية، أو تعبير عن الفكر بواسطة سلسلة من الألفاظ والقضايا التي يرتبط بعضها ببعض) المعجم الفلسفي. وهذا التعريف المختصر يعطينا فكرة عن طبيعة الدلالة الحديثة لهذا المصطلح، وإلا فتعريفاته الحديثة كثيرة جدا تختلف باختلاف زاوية النظر ومنهج المدرسة الذي يتناول من خلاله. وعندما نتحدث عن (الخطاب السلفي) فإنما نتحدث عن هذا المعنى الواسع والحديث لمصطلح الخطاب، بمعنى أننا نتحدث عن آليات التفكير والتعامل والتفاعل والتأثير والتنظيم الذهني والحركي لدى التيار السلفي إجمالا، يصبح من نافلة القول أن المرور على كافة مساحة الخطاب السلفي ومنعرجاته على مستوى العقائد المتناحرة ! وعلى مستوى الفقه المتنوع وعلى مستوى المواقف من النصوص والعلوم والأفكار والأشخاص، تعتبر شرطا للكتابة عن هذا الخطاب كما تمنحنا قدرة أكبر على تحديد مراكز التميّز التي يصطبغ بها ذلك الخطاب وتمنحه شخصيته المستقلة التي يفترق به عن غيره من الخطابات. والمقصود بلفظة «السلفي» التي أضفنا إليها الخطاب، هو كل ما يرتبط بشكل رئيسي بالمنتجات «التراثية» إن على مستوى الفكر أو على مستوى الحركة والطموح والذي يعبر عن نفسه من خلال مدارس متعددة ومشارب متنوعة، ترد على «التراث» مجتمعة وتصدر عنه شتى، دون غفلة كذلك عن مؤثرات التاريخ والجغرافيا في تشكيل كثير من بنيته الأساسية، مما يعني الرجوع القهقرى بالدراسة لمنابت الخلل وبدايات الانحراف، لا شماتة بتاريخ ولا تشفيا من مخطئ، وإنما عمل بواجب العلم والتزام بنتائج البحث والتحقيق. في الخطاب السلفي مساحة كبيرة من الجمال والفائدة وتسليط مجهر النقد على اجزاء منه لا يمكن أن يلغي هذه المساحات، لا بل على العكس إنه يمنح هذه المساحات ألقاً تستحقه ومكانة تليق بها. مع التعمق في تضاعيف هذا الخطاب وثناياه لا تبرح ذهن الباحث فكرة منتشرة ومتحكمة في مجمل الخطاب تظهر بأشكال متفاوتة وأساليب متباينة هنا وهناك وهي أن هذا الخطاب يعتمد بشكل كبير على التفكير من خلال «ثنائيات» تتحكم في آلياته في التفكير والتحليل، ونحن هنا لا نخفي أننا نعلم ابتداء أن هذه الآليات السلفية في التفكير متشابكة متداخلة وذات تأثير متبادل، وهذا التداخل يحتاج في محاولة فرزه وتحليله ومن ثم إعادة ترتيبه بشكل يسهل فهمه وتشريحه إلى جهود كبيرة لا تكفيها العجالة عادة ما يجبر على ضغط العبارات والاكتفاء بالإشارات. «الحداثة والتراث»، «الأصالة والمعاصرة»، «الولاء والبراء»، «الصواب والخطأ»، «العقل والنقل» «القديم والجديد»، مثل هذه الثنائيات يعتمد على الخطاب في قراءته وتفكيره ومواقفه، والخلل الكبير في مثل هذه الثنائيات الحدية أنها توهم التناقض بين طرفين وتوهم اقتصار الأمر على حدين اثنين في حين أن الصورة في الحقيقة غير ذلك ففي ثنائية القديم والجديد على سبيل المثال نجد أن القديم ليس قديما واحدا بل هو كثير ومتنوع ومتشعب، وقل مثل ذلك في الجديد، وهكذا فإن العلاقة بين أكثر القديم تشددا وأكثر الجديد تساهلا، ليست أبدا مثل العلاقة بين أكثر القديم تساهلا وأكثر الجديد تشددا، وهذه الصورة باعتبار النظر من زاوية واحدة هي التشدد والتساهل فكيف لو أردنا النظر من زوايا متعددة مثل زاوية الصواب والخطأ وزاوية الموضوعية وعكسها لاشك أننا حينئذ سنكون مجبرين على الإقرار بأن مثل هذه المسائل مسائل شائكة جدا والمواقف فيها نسبية ولا تمنحنا الثنائيات آلية علمية للتعامل معها. أعلم أن مثل هذا التحليل يسبب ضيقا للمولعين بالتبسيط والتسهيل لأنه يشعر بمدى صعوبة البحث ومدى صعوبة الوصول للحقيقة ولكن هكذا هي الحقيقة مرغوبة غالية وطريقها وعر مرهق. ولئن كنا نعلم أن هناك ثنائيات حقة دل عليها النص والعقل والتجربة كثنائية الوجود والعدم ونحوها، إلا أننا لا نتحدث عن هذه المساحة، وإنما نركز على الولع الزائد والغلو المفرط في التفكير من خلال الثنائيات الحديّة التي تحاول اختزال خريطة المواقع الفكرية والحركية الكثيرة إلى موقعين اثنين فقط في تحجير للواسع لمحاولة تسهيل المعنى وبالتالي تسهيل الفهم وأخيرا تسهيل الموقف والتعامل، بغض النظر عن مدى الإخلال الشنيع الحاصل من جرّاء هذا التسهيل. ليست «الثنائيات الحديّة» خاصة بالخطاب السلفي وحده بل يشترك معه فيها عدد من الخطابات الفكرية التي تتقاطع مع أسلوبه في التفكير، لكن ما نتحدث عنه هنا هو الخطاب السلفي. إن هذه الآلية تسهم إلى حد كبير في إلغاء «النسبية» في الأشياء والأفكار والمواقف، وهي آلية ضرورية في البحث والنظر، لأنك إذا أردت أن تصل إلى الحقيقة فلابد أن يكون تفكيرك مبنيا على النظر من جهات عدة وباعتبارات عدة ما يساعد على المقاربة من التوصيف الحقيقي للأمر موضع الدارس، ذلك أن كثيرا من الأفكار والأشياء من حولنا إنما هي نتيجة تفاعل مجموعة من العناصر المؤثرة التي هي غالبا متباينة في جذورها الأساسية وإن ظهرت للوهلة الأولى وكأنها شيء واحد متناسق، إلا أن النظر الثاقب يظهر أنها مركبة من عدة عناصر بنسب متفاوتة فالحكم عليها لابد أن يأخذ في الاعتبار مقادير تلك النسب المؤثرة في الحكم إذا أردناه حكما دقيقا وموضوعيا، وهذه النسبية في التكوين والنسبية في الحكم تقابلهما أو قل تتوسط بينهما نسبية ثالثة هي عقل الدارس والمفكر، فالإنسان في تكوينه المعرفي والفكري خاضع لمؤثرات نسبية عدة منها مخزونه العلمي والمعرفي المكون من سعة الإطلاع والاتجاه الفكري، ومنها موروثه الثقافي من لغة واعتقاد وأعراف اجتماعية، ومنها مقدرته الذهنية على التحليل والتركيب والتي هي مجال الإبداع والتميز في عقلية المفكر. إن إدراك هذا الحضور القوي للنسبية في مظاهرها الثلاثة التكوين والحكم والعقل يمكننا من تفسير الكثير من الظواهر العلمية والسياسية والكونية، كما يمكننا كذلك من التفهم للخلافات القائمة وبالتالي الحد من غلواء التنازع والتنافر.