تحل مواسم الفرح ومنها العيد فترى الناس صنفين: صنف يؤثر البقاء في المدينة، بل لا يغادر بيته، وهذا لا أحسبه يتذوق طعم العيد ولذة الفرح مهما تعاقب الجديدان؛لأن العيد في المدينة ليس أكثر من فرح طافر يقوم به الأطفال في ليلته الأولى، أوتجديد في الأثاث أو الملبس، وأما الكبار فيمر عليهم كسائر الأيام حالك اللون تافه الطعم بادي الكآبة بلا تغيير في البرنامج اليومي سوى عدة رنات هاتفية للتهنئة تشبه التهنئة بفوز فريق مفضل. فالإنسان الذي لم يغادر مدينته في أيام الفرح، لا يفطن لدوران الفلك ينام ساعات ويجتر مثلها،دون الشعور بتبدل الأحوال، أو بالسعادة التي عادة تغشى النفس لحظات الأعياد. والصنف الثاني: صنف ينوي المغادرة هروبا من صخب المدينة، وضوضاء الشوارع، وزحامها، وتغيير رتم الحياة اليومي، لكن يعوزه الاختيار وتشح أمامه البدائل، ويخشى أن لا يلفي اختلافا، وهذا ألومه على تردده؛ لأننا مجتمع صحراوي قروي، وغرباء المدن، بل لم تكن مفردة (مدينة) في قاموس آبائنا، والقرآن يشهد بذلك، من هنا فالخيار الأنسب أن يتجه كل واحد منا إلى القرية يحث خطاه باحثا عن مراتع صباه، ومسقط رأسه وذكريات طفولته واجتماع أقاربه لتكتمل فرحته بالعيد، كنت من هذا الصنف غادرت إلى القرية فألفيتها بعد طول انقطاع كبسمة فرح على ثغر الوجود تزدان لياليها فيعود للشيوخ شبابهم وهم يبصرون أبناءهم الذين اختطفتهم المدنية قد ارتموا في أحضانهم والتفوا حولهم وسكنوا معهم مهما كان حجم المنزل ونوعه، وأبصرت القرية التي كانت تعيش حدادا تتوشح في العيد برداء العروس ليلة زفافها والطيور تغني نشوى وترقص ثملة وهي ترى القرية قد دبت فيها الحياة وغشيتها المودة والتواصل،وتغيرت بمن فيها وما فيها، وتحولت من أرض هامدة إلى شعاب وجبال وهضاب نابضة بالحياة ومن منازل عارية خالية إلى اكتساء بالحل الزاهية، حتى البيوت المهجورة يخيل للرائي إنها معمورة والنخيل التي سقط سعفها وبقى جذعها تحاول أن تقاوم رياح الأسى لتبقى صامدة تذكرنا تاريخ من غرسها وتلومنا كجناة!!!. إذن العيد في القرية بر بكبار السن القابعين في أكناف الجبال وبطون القلاع يرفضون الاستسلام للوثة المدنية،وربط للحاضر بالماضي، تمر أيامه ولياليه بهجة للروح ومتعة للعين وراحة للنفوس فيه فرح ونشوة وحركة وتواصل وجو نظيف ونسيم عليل وسماء صافية يجتمع في ليلها السمار والزوار ويلتئم عقد الأقارب، يتجاذبون أفنانا من الحديث ويمارسون ألوانا من المرح لا يكاد يداعب النعاس أجفانهم ولا تكاد تغادر البسمة أفواههم، حتى إذا ما ودعهم العيد ترك وراءه قلوبا ساهم في زيادة الحب بينها وساعد على إذابة التخاصم والتباغض الذي خلفته سنة من اللهاث وراء الحطام الدنيوي. وإذا كان الأمر كذلك فإنني أدعو إلى الاهتمام بالقرى التي لم تحظ بالخدمات وخاصة المياه في ظل شح الأمطار؛ لتكتمل البهجة،كما آمل أن تحظى القرى وأعيادها بالتغطية الإعلامية وتشجيع الجيل على العودة إليها لنربط بين عصرين، فالأعياد القروية هي من أقوى العوامل في توثيق العلاقة بين الإنسان والأرض والماضي والحاضر والآباء والأبناء. وكل عام وأنتم بخير. * رئيس النادي الأدبي في جدة [email protected]