انقطاع تام عن العالم الخارجي الهدف منه التقرب من الله لا يكون إلا مع إطلالة العشر الأواخر من رمضان، يدخل فيها المعتكفون مقار اعتكافهم في قبلة الدنيا في واحدة من أجمل الصور الإيمانية التي لا تستطيع عدسات القنوات الفضائية رصدها من الداخل في مشهد إيماني، حيث تتجسد أبهى صور العلاقات الإنسانية الوثيقة لتتجمع تحت رايتها الأطياف والأعراق والأجناس وتشكل بوتقة واحدة تضع الفقراء والبسطاء في مصاف الأثرياء وحيث لا فرق بين هذا العرق وذاك إلا بالتقوى. البداية كانت مع طبيب قلب مشهور يرأس حاليا قسم القلب في أحد المستشفيات الكبرى في المنطقة الغربية لا ينقطع عن الاعتكاف منذ سبعة عشر عام حيث يتفرغ للعبادة خلال العشر الأواخر من شهر رمضان في كل عام، يعرفه كل من في الحرم حيث يلازم أحد الأعمدة يحمل معه مصحفه وسجادته لا ينقطع عن الذكر والعبادة والتلاوة والصلاة طيلة وجوده في الحرم، يقول: «هذا مكاني منذ عشرين سنة لم أفارقه، أقضي فيه العشر الأواخر من رمضان بجوار هذا العمود». فيما يذكر أحمد الحربي أنه يحرص على الاعتكاف سنويا حتى أصبح متعلقا به ومتلهفا إليه، ومما يذكره أنه في إحدى السنوات داهمه مرض وهو في معتكفه ولكنه رغم شدة المرض استمر حتى أنهى أيام الاعتكاف. وإلى جواره يجلس شاب لم يتجاوز الخامسة عشر يحمل مصحفه، وتحدث قائلا: منذ أن كان عمري عشر سنوات وأنا أعتكف، إذ بدأت الاعتكاف مع أخي الأكبر ووالدتي والآن مع والدتي حيث نأتي من جنوب المملكة منذ خمسة أعوام من أجل هذا العمل. ويقول خالد حميد: نعيش في جو أخوي ممزوج بلذة العبادة وأريحية التعامل نقضي وقتنا في الذكر والتلاوة والصلاة لا ننام من الليل إلا قليلا، وفي هذا المكان يتساوى رجال الأعمال الكبار والفقراء، فقد شهد هذا المكان اعتكاف رجل أعمال كان يحضر كل عام لأكثر من 30 عاما وتوفي العام الماضي بعد شهر رمضان وهذا مكانه الذي كان يجلس فيه كل عام. معتكف آخر تحدث قائلا: أنا جديد على الاعتكاف وهذه أول سنة لي وأريد أن أنقطع للعبادة ولو عشرة أيام في العام وهذه الأيام أيام مباركة وكما ترى هؤلاء الناس الذين تجمعوا هنا هدفهم الحصول على مغفرة الله ورحمته فقد تركت زوجتي ولم يمض على زواجنا سوى أربعة أشهر وآثرت تأدية هذه السنة. ويضيف: أقضي الليل في الصلاة والنهار في تلاوة القرآن كما ترى هؤلاء المعتكفين الذين يغص بهم المسجد الحرام ونحن لا يخرجنا من الحرم إلا فقط وقت تناول الطعام أما بقية الوقت فنقضيه هنا وقد نشأت صداقات بيننا نحن المعتكفين في المسجد الحرام تستمر طوال العام ونشأت عنها زيارات ونلتقي سنويا في نفس المكان والزمان. ويذكر حمدي محمود من مصر أنه جاء للاعتكاف منذ الخامس عشر من شهر رمضان، ويضيف: عملت في المملكة مدة تزيد على عشرين عاما وخلالها أتردد على المسجد الحرام أجاور العشر الوسطى من رمضان واعتكف العشر الأواخر منه، فأنا مستمر على ذلك منذ خمسة وعشرين سنة ولن أترك هذه السنة ما استطعت إلى ذلك سبيلا. وأشار الدكتور يوسف الوابل وكيل الرئيس العام المساعد للخدمات إلى أن عدد المعتكفين يصل إلى 70 آلف معتكف منهم قرابة 50 ألف رجل و20 ألف امرأة غالبيتهم من السعوديين ومعهم نسبة كبيرة من المعتمرين والمقيمين، مشيرا إلى أن إدارة التوجيه والإرشاد بالمسجد الحرام قد خصصت قبو توسعة الملك فهد للمعتكفين لإقامة هذه السنة التي يحرص الكثير من المسلمين على إحيائها وقد قمنا بتوزيع أكثر من 100 ألف مطوية تحتوي على إرشادات للمعتكفين تحثهم فيها على استغلال هذه الفترة التي يقضونها في هذا المكان بالتفرغ التام للعبادة والإكثار من الذكر وتلاوة القرآن الكريم والابتعاد عن التجمعات والحديث فيما لا فائدة فيه والالتزام بالمظهر الحسن والمحافظة على نظافة المكان وعدم إدخال الأطعمة وعدم الاعتكاف في بدروم المسعى وعدم استغلال دواليب المصاحف للأغراض الخاصة وعدم تعليق الملابس على الأعمدة والسلالم وغيرها من التعليمات والإرشادات التي تضمنتها هذه المطويات، كما قامت الرئاسة بتوزيع عدد من الكتب العلمية التي يستفيد منها المعتكف وتعينة على أداء هذه العبادة وقد سمح لهم بإدخال سجادة وغطاء ومخدة لقبو توسعة الملك فهد حيث تم توزيعه إلى مربعات وأماكن للرجال وأماكن منعزلة للنساء.