كانت ومازالت محاكمة الشاعر والروائي تثير إشكالية جدل اجتماعية بين الفينة والأخرى ويظل هذا الفنان محاطا بمساحات من الشك والجدل الذي ما أن ينتهي حتى يبدأ من جديد وفي ذاكرة ثقافتنا العربية والإسلامية العديد من الوقائع المتنوعة حول تلك الاشكالية لعل أبرزها حادثة الشاعر النعمان بن فضلة مع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه والذي استعمله على ميسان من نواحي مدينة البصرة بالعراق آنذاك وبعد أن أمضى فترة في ميسان أرسل قصيدة شعرية في رسالتين واحدة إلى زوجته والأخرى إلى أمير المؤمنين وكل رسالة تحمل أبياتا شعرية تقول الأبيات: فمن مبلغ الحسناء أن حليلها بميسان يسقى في زجاج وحنتم إذا شئت غنتني دهاقين قرية ورقاصة تجذو على كل منسم فإن كنت ندماني فبالأكبر اسقني ولاتسقني بالأصغر المتثلم لعل أمير المؤمنين يسوؤه تنادمنا بالجوسق المتهدم فماكان من عمر بن الخطاب إلا أن استدعى الشاعر من ميسان وقام بعزله مباشرة وكان موقفا صارما من الشاعر وحيث القصيدة تقدم صورة عن ممارسات (العامل المسؤول) فجاء موقف الخليفة كرد فعل إداري سريع بالعزل خشية على مصالح الناس ورأفة بهم من مسؤول يردد أبياتا تكشف عن انشغاله بعيدا عن مسؤولياته لكنه في ذات الوقت لم يقم عليه الحد أو المحاكمة القضائية الشرعية فقد درأ عنه الحد لاعتذاره بالآية الكريمة في سورة الشعراء( وأنهم يقولون مالايفعلون) وهنا يكشف أمير المؤمنين عن موقفه من عامله وليس من موقفه من الشاعر أوالقصيدة فالقول للشاعر عالم افتراضي وعالم غير الحقيقة فالشاعر يمنح نفسه إجازة بالانطلاق متكئا على الآية الكريمة عندئذ لا يحاكمون في الواقع ذلك أن عالم الشعر ليس عالم الحقيقة، فتجاوزات الشاعر والفنان هي تجاوزات باتجاه اللغة بحثا عن الإبداع، وفي قصة أخرى مماثلة يأتي الشاعر الفرزدق لينشد أبياتا أمام سليمان بن عبدالملك ومنها هذا البيت المتجاوز: فبتن بجانبي مصرعات وبت أفض إغلاق الختام فقال له الخليفة غاضبا ( قد وجب عليك الحد)، فرد الشاعر:يا أمير المؤمنين قد درأ الله عني الحد بقوله (وإنهم يقولون مالايفعلون) إن إجابة الشاعر هنا إجابة فقهية واعية تحمل البرهان من النص القرآني، فالقول شأن، والفعل والممارسة شأن آخر. ويروي لنا الإمام الشنقيطي في أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن بقوله: إن العلماء اختلفوا إذا اعترف الشاعر في شعره بما يستوجب حدا على قولين: أحدهما : إنه يقام عليه الحد لأنه أقر به، والإقرار تثبت به الحدود. وثانيهما: إنه لايحد بإقراره في الشعر لأن كذب الشاعر في شعره أمر معروف معتاد واقع لانزاع عليه) ويذهب الشنقيطي مع رأي الفقهاء الذين يدرأون الحد عن الشعراء، وهذا رأي ربما يطمئن الشعراء، ويمنحهم إطلاق أعنتهم باتجاه الإبداع. أن ماينطبق على الشعراء ينطبق اليوم على كتاب الرواية من حيث هي فن قائم وعالم متخيل وشخصيات وكتابة تأريخ اجتماعي بلغة السرد الفنية لها عوالمها الموغلة فهي لاتحاكم في الواقع فكاتبها يقول مالايفعل. [email protected]