كم هو مؤلم للإنسان الصادق والمخلص والأمين لمجتمعه ووطنه أن يرى المنافقين يسرحون ويمرحون، ينافقون ويجنون نتائج نفاقهم على حساب غيرهم من أفراد وجماعات ومجتمع، وعلى حساب الصدق والحقيقة اللازمين لصحة وعافية المجتمع. وكم هو مؤلم أيضاً، لهذا الإنسان، أن يرى كيف يستشري مرض النفاق في مفاصل مجتمعه ولا من يضع له حدا، ويرى أيضاً كيف أن المنافقين أطول باعاً ولساناً، وغاياتهم تبرر وسائل تحقيقها، ولا يبالون بسلبيات نفاقهم وتبعاتها على المجتمع ومكوناته. وأكثر إيلاماً للإنسان شعوره أن ليس بمقدوره، بمجرد حسن نيته وحسه الوطني والإنساني وصوته العالي، حسم المعركة بين النفاق والصدق، ووضع حد لنفاق المتملقين والمتزلفين، فالأمر يحتاج لجهد جماعي وتوعية مكثفة ومستمرة وطويلة الأمد، وعلى مستوى أكبر، لإيضاح مساوئ النفاق وسبل محاربته ورفضه وعدم تقبله، وفي المقابل إيضاح محاسن الصدق وإيجابياته والتشجيع عليه. وعن مواجهة النفاق فلنا أسوة بأمير المؤمنين عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، الذي كان إذا رأى شاباً منكساً رأسه، (وشك في أن يكون خشوعه نفاقاً)، قال له: «ارفع رأسك فإن الخشوع لا يزيد على ما في القلب. فمن أظهر للناس خشوعاً فوق ما في قلبه فإنما أظهر للناس نفاقاً إلى نفاق». فالخوف إذا ما بُنيت مصالح كثيرة على النفاق، وأصبح يدافع عنها، جيلا بعد جيل، منافقون محترفون وذوو خبرة في مهنة النفاق. فعن عمر أن الرسول، عليه الصلاة والسلام، قال: «أخوف ما أخاف على أمتي كل منافق عليم اللسان» (رواه الدارقطني وزاد أحمد في رواية: «يتكلم بالحكمة ويعمل بالجور»). وحسناً كتب الدكتور عايض القرني في مقاله (النفاق الاجتماعي) المنشور في جريدة الشرق الأوسط (الثلاثاء 16/4/1429ه الموافق 22/4/2008م) إذ قال: «نحن لا نطلب من الناس سوء الأدب مع الرموز الدينية والسياسية والوطنية، وسائر الناس، ولا التجريح ولا التشهير، ولكن نطالب الجميع بالكف عن هذا النفاق الاجتماعي». ومع ذلك فالدكتور القرني بالتأكيد مع مكافأة أهل الفضل بالتقدير والاحترام والدعاء لهم، وعملا بما تضمنه الحديث الشريف : «من صنع إليكم معروفاً فكافئوه فإن لم تجدوا ما تكافئوه فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه». وتختلف أشكال وأساليب النفاق، من إفراط في المدح الكاذب إلى التذبذب في المواقف والظهور بأكثر من وجه. وفي التراث كثير من الإشارات لأوجه النفاق، منها أن سعيد بن عروة قد قال: «لأن يكون لي نصف وجه، ونصف اللسان على ما فيهما من قبح المنظر وعجز الخبر أحب إليَّ من أن أكون ذا وجهين وذا لسانين وذا قولين مختلفين». ويروى أن رجلا سأل الرسول، عليه الصلاة والسلام: هل المسلم يسرق؟ قال: نعم، وهل المسلم يزني؟ قال: نعم، وهل المسلم يكذب؟ قال: لا، سأل الرجل ولماذا؟، قال: لأن لا مبرِّر للكذب. كما يروى أن الصحابة رضي الله عنهم يتخوَّفون من المدح لما يدخله من سرور على قدر كبير في قلب الممدوح، وما يتأتى عنه من فتنة، حتى أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، حسب رواية (مختصرة)، سأل رجلا اسمه أربد عن حكم في حادثة.. فقال: «أنت يا أمير المؤمنين خير مني وأعلم»، فقال: «إني لم آمرك بأن تزكيني...» (رواه البهيقي والشافعي في مسنده وعبدالرزاق في مصنفه). وقريب من ذلك ما يروى عن عبدالملك بن مروان أنه إذا دخل عليه رجل قال له: «لا تكذبني فإن الكذوب لا رأي له، ولا تجبني فيما لا أسألك فإن فيما أسالك عنه شغلا، ولا تطرني (تمدحني) فإني أعلم بنفسي منك، ولا تحملني على الرعية فإني إلى الرفق بهم أحوج». ومن أبلغ أبيات الشعر في المدح والنفاق النماذج التالية: للشاعر الأزرقي مخاطباً كافور الإخشيدي بمناسبة زلزال: ما زلزلت مصر من كيد ألم بها لكنها رقصت من عدلكم طرباً وللفرزدق في مدح علي بن الحسين لفرط كرمه: ما قال لا قط إلا في تشهده لولا التشهد كانت لاؤه نعم وقال شاعر: وأخفت أهل الشرك حتى أنه لتخافك النطف التي لم تخلق ولشاعر آخر: كأنك شمس والملوك كواكب إذا طلعت لم يبد منهن كوكب وقال شاعر: تراه إذا ما جئته متهللا كأنك تعطيه الذي أنت سائله وهاهو الإمام مالك بن دينار، أحد علماء التابعين، يقول: «مذ عرفت الناس لم أفرح بمدحهم ولم أكره ذمهم، لأن حامدهم مفرط وذامهم مفرط». وبناء عليه فإن الممدوح قد يكون غير ما قيل عنه، والمذموم قد لا يكون سيئاً كما قيل عنه. وقد يكون الذم أفيد لأنه يهدي المذموم لأن يراجع عيوبه وأعماله، ليراها كما هي على حقيقتها كي يتخذ ما يراه مناسباً لإصلاحها. أما المدح فيعمي العيون عن تقصي العيوب، وبهذا قد يتعذَّر تصليحها. فالمدح الكاذب والنفاق يشوش على نظرة الممدوح للأمور بشكل عام. ومن يقبل / قبل المدح الكاذب، أي بما ليس فيه، فقد شجع عليه وغر نفسه، وفي هذا قال أكثم بن صيفي في وصية له: «حب المدح رأس الضياع»، والله تعالى يقول: «لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم» (آل عمران: 188). خلاصة الموضوع هي أن النفاق مخالف لواقع الأمور، وفيه وأد للصدق والحقيقة، ولذلك فيه ضرر على المجتمع أي مجتمع ومكوناته، وهذا حافز قوي على محاربته وتحييد تأثير سلبياته، والله الموفق.