تعج المحاكم الجزائية بقضايا أقل ما يقال عنها أنها بسيطة، يلجأ فيها أصحابها إلى جر أصدقاء وأقارب لهم إلى أروقة المحاكم دون سبب وجيه، فيما تسجل قضايا السب والشتم والألفاظ النابية والعنصرية تزايدا في مجمل القضايا التي تنظرها المحكمة الجزائية بما يقارب 20 في المئة من حجم القضايا الواردة من دوائر العرض والأخلاق مما يتسبب في إرباك المحاكم بقضايا أقل أهمية من القضايا المنظورة لسجناء وموقوفين وقضايا جنائية كبيرة وحقوق خاصة. ويقول متابعون إن كثيرا من تلك القضايا بسيطة ويمكن تفاديها دون اللجوء إلى القضاء فيما لو اختار أصحابها التروي والحكمة، وهي مظاهر تبين تدهور العلاقات الاجتماعية في المجتمع وطغيان الجانب المادي، فيما يطالب قضاة ومحامون وحقوقيون بضرورة صدور نصوص نظامية تجرم الألفاظ النابية وتصنيفها ووضع تعريفات لها. السكران «عكاظ» اطلعت على نماذج حية من تلك القضايا المنظورة في المحاكم، آخرها لمسؤول إدارة في الشؤون الصحية شبه أحد موظفيه ب«السكران» ما دفع بالموظف إلى مقاضاته، مطالبا بحقه الشرعي في تأديبه، مستعينا بشاهدين. حليب وظيفي ومن القضايا التي باشرتها المحكمة الجزائية دعوى موظف ضد مديره الذي قال له عبارة «سنحلبك قبل الإجازة» متهما مديره بأنه شبهه بالحيوانات التي تحلب مطالبا بتعزيره. تخسى وقضية إمام مسجد قال للمؤذن عبارة «تخسى .. مانت بكفو»، حيث طالب المؤذن بتعزير إمام المسجد على هذه العبارة. يا أسود ودعوى لمواطن ضد آخر قال له «يا أسود» وهي العبارة التي اعتبرها مهينة وعنصرية وطالب بمقاضاة الطرف الآخر. ومواطن أشار بإصبعه الأوسط إلى آخر في حركة غير لائقة. وتنظر المحكمة عددا من قضايا الشتم والسب والقذف وعبارات العنصرية والتهكم والسخرية، حيث تنعقد جلسات قضائية وتصدر أحكام فيها وترفع إلى الاستئناف وتعاد أحيانا، الأمر الذي يشكل عبئا إضافيا على المحاكم الجزائية. ومن القضايا الغريبة أن مواطنا قرر اللجوء إلى المحكمة لمقاضاة جار له، بسبب نزاع معه حول مكان وقوف السيارة. وتقدمت للمحكمة سيدة عجوز ضد جارتها تتهمها بالسب والشتم، مدعية بأنها وجهت لها عبارة «لعنة الله عليك»، وهي جملة كافية لجر سيدة إلى أروقة المحاكم. وقضية أخرى تتعلق بإحدى السيدات التي تقدمت إلى المحكمة وهي تطالب بسجن أخيها، والسبب لجوء هذا الأخير إلى التدخل في مواقيت خروجها ودخولها إلى البيت حفاظا على سمعة العائلة، على اعتبار أن زوجها سجين وهو قد أذن لها بالخروج لمتابعة بعض الأمور، وطالبت بأخذ التعهد عليه بعدم التعرض لها. الروابط الاجتماعية والعائلية إلى ذلك يعلق المحامي والمستشار القانوني خالد أبو راشد أن قضايا السب والشتم في مقدمة القضايا التي تقود أصحابها إلى المحاكم، فحوالي ثلث القضايا الحقوقية والأسرية تتعلق بالسب والشتم، فلجوء أخ إلى مقاضاة أخيه، وأخت إلى مقاضاة أختها، وجار يقاضي جاره لم تعد قضايا تثير استغراب المحامين ولا القضاة أنفسهم، فكثيرة هي القضايا التي بدأ فيها المحامون تدخلاتهم بالتأسف على الحالة التي آلت إليها الروابط الاجتماعية والعائلية. مرمطة الخصم ويقول عضو هيئة التحقيق والادعاء العام سابقا والمحامي والقانوني صالح مسفر الغامدي إنه عادة ما يلجأ مواطنون إلى رفع دعاوى في الحق الخاص قد تكون لا تستحق المتابعة وذلك نتيجة غياب إطار قانوني يحدد القضايا التي يمكن رفعها من عدمها، فيستغلون عدم تمكن المحاكم من رفض قضايا والتدخل في مواضيعها ليقدموا على تقديم هذا النوع من الشكاوى التي تضيع الكثير من الوقت والجهد وتزيد من حدة توتر العلاقات الأسرية والاجتماعية، ويهدفون من هذه الدعاوى إلى إشغال و«مرمطة» الخصم بين أروقة المحاكم. تجريم وتحقير الآخرين وقال الدكتور عمر الخولي أستاذ القانون والمستشار القانوني في هيئة حقوق الإنسان: حبذا أن يتم إصدار تنظيم قانوني يتم بموجبه تجريم كافة الألفاظ والإشارات والكلمات التي تنطوي على تحقير الآخرين أو الانتقاص من شأنهم أو معايرتهم بصفة أو نسب أو عرق أو لون أو أصل أو مذهب على سبيل التهكم أو التحقير أو السخرية. وأضاف الدكتور الخولي إن مثل هذه التصرفات توصف بأنها جنح يجتمع فيها الحق العام والحق الخاص، وإن كان الحق الخاص أغلب. وختم بقوله إن التعزيرات الشرعية تستوعب العقوبات على مثل هذه الأفعال أو الأقوال إلا أن من الأفضل وضعها في إطار تنظيمي، حيث يكون العامة على بينة من أمرهم في ما يتعلق بالعبارات والألفاظ التي قد تقود صاحبها إلى العقاب. تقديم الحق الخاص على العام وقال المحامي والقانوني محمد المؤنس إن المحكمة الجزائية تختص بالنظر في مثل هذه القضايا، مبينا أن هذه القضايا فيها حقان (عام وخاص)، وهي على الراجح حق للآدمي، ويقدم الحق الخاص على العام، ولا مانع من نظرهما معا؛ ذلك أن الحق العام هنا لا يثبت إلا بثبوت الحق الخاص فهو مترتب عليه. وعن الإجراءات، أوضح أنه تقام الدعوى من المدعي الخاص ضد المدعى عليه، ويمكن أن يتدخل المدعي العام مع المدعي ويطالب بإقامة حد القذف أو التعزير لقاء سبه أو شتمه ويطلب جواب المدعى عليه كسائر القضايا الجنائية. 11 ألف قضية في 5 أشهر كشفت إحصائية حديثة صدرت أخيرا أن المحكمة الجزائية في جدة نظرت نحو 11500 قضية خلال 5 أشهر، شملت القضايا الحقوقية والجنائية والإنهائية. ووفق التقرير الذي اطلعت عليه «عكاظ» فإن القضايا الجنائية شملت 24 نوعا من القضايا، احتلت فيها حيازة المخدرات المرتبة الأولى بواقع 1231 قضية، وجاء في المرتبة الثانية قضايا المضاربات والاعتداء وبلغت 763 قضية، في حين جاءت في المرتبة الثالثة قضايا ترويج المخدرات بواقع 349 قضية. وسجلت في ذات المحكمة قضية واحدة في كل من قضية اتجار بالبشر، وشهادة الزور، وإفطار في رمضان، والتخلف عن صلاة الجماعة. وسجلت ذات المحكمة 4 قضايا في جرائم المعلوماتية، و40 قضية نصب واحتيال، و3 دعاوى كيدية و27 قضية خيانة أمانة، و11 قضية بلاغ كاذب و130 قضية سب وقذف. وبلغ مجموع القضايا الجنائية 6176 خلال الأشهر الخمسة الأولى بنسبة تقارب 54 في المئة، في حين بلغ مجموع القضايا الحقوقية والإنهائية 5335 قضية بنسبة تقارب 46 في المئة. واحتلت القضايا الحقوقية والإنهائية المرتبة الأولى في قضايا المطالبات المالية بمبالغ لا تزيد عن عشرين ألف ريال، وبلغ عدد القضايا 3415 قضية، وجاءت في المرتبة الثانية قضايا حق خاص بسبب حادث مروري وسجلت 459 قضية، وجاءت في المرتبة الثالثة قضايا القذف والسب والشتم بواقع 253 قضية، فيما سجلت قضية واحدة ضد بيت المال في المحكمة العامة، وسجلت المحكمة 26 دعوى طلب إعسار و6 قضايا تشهير و14 دعوى أجرة عقار. وتختص المحكمة الجزائية النظر في قضايا عدة، مثل قضايا تعاطي وترويج وحيازة المخدرات والسكر والقضايا الأخلاقية وعقوق الوالدين والمضاربات وقضايا النصب والاحتيال والقضايا الحقوقية التي تقل عن عشرين ألف ريال وقضايا المعاكسات والسب والقذف والمضاربات وقضايا الأحداث.وينظر في المحكمة الجزائية نحو 21 قاضيا في قضايا محافظة جدة التي يقارب عدد قاطنيها من المواطنين والمقيمين نحو 4 ملايين نسمة. ويقول مختصون وقضاة ومحامون وحقوقيون إن المحكمة الجزائية تحتاج أن تحذو حذو المحكمة العامة بفتح أبوابها عصرا لمعالجة تأخر القضايا ومواجهة الزحام وتزايد عدد القضايا.