وبعد رحلة مضنية، وقفت في برحة (القزاز) في الطائف سيارة (البريد)، هنا في هذه البرحة كان مكتب البريد، ومع ساعات الصباح الباكر، وصلت (سيارة) بعد أن أمضت أكثر من نصف يوم في الطريق ما بين مكةوالطائف، تخللتها فترة راحة في السيل الكبير، وتناول وجبة العشاء المشهورة، (شكشوكة البيض) مع الخبز الأسمر البلدي، أو طبق الفول أو على الأقل قرص (التميس) مع (براد الشاي) المضبوط. ولقد كان لتلك الوجبة طعم لم نجد له مثيل في أي مطعم من مطاعم العالم التي زرناها فيما بعد؟. كانت (برحة القزاز) هي المحطة الأخيرة للمصطافين الذين اختاروا السفر بسيارة البريد الرسمية إلى الطائف، فقد وصلوا بعد معاناة في صعود المرتفعات الجبلية ما بين السيل الكبير والسيل الصغير، أعلاها (ريع المنحوت) صعب المراس. وصلت السيارة واستيقظ (الركاب) من نوم متقطع قصير، فالطريق وعر والمركبة خالية من كل وسائل الراحة، ولكن نسمات الصباح الجميل المملوء بهواء الطائف العليل كانت قد أذهبت عناء الطريق. وسيارة البريد لمن أراد المزيد، هي سيارة كبيرة (لوري) صنع لها محليا صندوق من الخشب، جزءه الأمامي للسائق ومعاونه، وللراكب الذي يدفع أكثر، والجزء الأوسط للمسافرين والجزء الخلفي مقلق توضع فيه الرسائل والطرود البريدية. وفي نهاية الرحلة تقف السيارة أمام مكتب البريد وينزل السائق -وسائقو ذلك الزمان كان لهم كبرياء لا يقل عن (كابتن) البوينج في هذا العصر-!. ويأمر معاونه بأن يطلب من الركاب سرعة النزول وحمل أمتعتهم، فيستجيب الجميع بمن فيهم الصبي ووالدته وأخته وصاحبتهما السيدة الكبيرة؟. فينظر الصبي إلى عائلته وما حملوا مع هم من مكة من لحف ومخدات ولوازم طبيخ، وسجاجيد للصلاة وكل ما يلزمهم للبقاء في المصيف عدة شهور؟ فيجد أن الحمل ثقيل وأن المشوار على الأسرة كبير.. فيلهمه الله، الاحتكاك بالحياة مبكرا، فيأخذ من أمه ريالا من الفضة يلوح به للسائق ويقول له وبكل جرأة «خذ هذا وأكمل لنا المشوار، وسوف نعطيك ما بقي معنا من فطائر وسمبوسك بالتمر، وليس لدينا الكثير». فيشير إليه السائق بلحظ عينيه أن انتظروا حتى ينزل باقي الركاب!. وينتهي المشوار، وتبدأ متعة الاصطياف؟. كان الناس (أيام زمان) يبحثون لقضاء إجازاتهم عن الأماكن التي تعطيهم الجو اللطيف والنسيم العليل!. أما الآن ومع وجود (التكييف) فأصبح الناس يبحثون عن متع أخرى؟ عن النغم والمسارح والأسواق والبلاجات، والحرية في الحركة! وفي رأي الراوية أن (الإجازات) زمان أمتع وفيها أمان!..