يقول الاستاذ أحمد باديب -وهو يتذكر- ل«عكاظ» حكايات من الزمن الجميل لماضي جدة العريق، حيث يقول: هذه جدة القديمة ما أزال أذكر تفاصيلها عندما كن صغارا، واجهات بيوتها المتلاصقة وأبوابها المؤصدة والأزقة الضيقة المتعرجة. يقول باديب إنه ينظر إليها الآن بحسرة، فقد كان لوقت قريب يسكن هذه البيوت أسر عريقة يظللهم الحب الوارفة ظلاله، في هذه الحارة عاشوا وتزوجوا وأنجبوا أبناءهم، وفي هذه البيوت المبنية من الطوب والمسقوف بالخشب بدأ معظم تجار جدة المشهورين والمعروفين في عالم التجارة والمال والثراء رحلتهم في دكاكين متواضعة انطلقوا منها إلى عالم أرحب وأوسع في مجال العمل التجاري. وفي هذه الأزقة ترعرعنا وعاش الآباء في زمن ماضٍ صعب، فيه معاناة، ولكنه جميل ودافئ بكل ما تحمل الكلمة من معنى والآن يجني الأبناء ثمار تعب الأباء الذين خرجوا من هذه الحارة البسيطة المتواضعة وتلك الدكاكين المتلاصقة المتهالكة إلى عالم الشركات والأسواق المركزية. في حاراتها العديدة عشنا وترعرعنا التي أشهرها حارة المظلوم نسبة الى السيد المظلوم؛ وهو أحد سكان المنطقة في ذالك التاريخ وسميت الحارة نسبة له، ثم حارات الشام، واليمن، والبحر، والتي سميت حسب مواقها الجغرافية والكرنتينة والصحيفة والهنداوية والبغدادية كانت قرى خارج السور وتتميز بوجود صهاريج الماء فيها والتي تجمع مياه الأمطار وغيرها من الحارات. والحديث لا يزال لباديب متحدثا عن بيوت جدة القديمة، مشيرا إلى أنها كانت من الحجر المنقبي «العاشور» الذي يستخرج من بحيرة الأربعين ثم يتم تعديله من خلال الآلات اليدوية ليوضع في مواضع تناسب حجمه إلى جانب الأخشاب التي كانت ترد إليهم من المناطق المجاورة كوادي فاطمة أو ما كانوا يستوردونه من الخارج عن طريق الميناء (خاصة من الهند) أما الطين الذي كان يستعمل في البناء فيجلبونه من بحر الطين. وأضاف باديب هذه الأزقة سميت بالعديد من الأسماء، فمثلا زقاق (أهل الفردوس) و(أهل الورع) و (أهل الحرص) و(المضاربة) و(الضجيرة) وهو حيوان أسطوري ليس له وجود إلا في مخيلة الناس مشيرا إلى أن أغلبها لا يزيد عرضه على متر واحد، وفي وسط هذه الأزقة الدكاكين بمسطبياتها المميزة. ويستطرد باديب لقد كانت هذه الحارات مكتظة بالسكان، وكانوا جميعهم معروفين لبعضهم البعض ومتحابين وقلوبهم متآلفة، إذا فرح أحدهم فرحوا له جميعا، وإذا حزن واحد منهم حزنوا جميعا، وكانت هذه السمة السائدة في علاقة الجيران في ذلك الزمن الجميل. واختتم باديب حديثه قائلا: «جدة كان يميزها السور القديم الذي كان يحيط بأحيائها التاريخية الأربعة آنذاك، عاش أهلها الزمن الجميل كما يقولون تلك الفترة الذهبية التي جمعت التجار والأدباء والشعراء والفنانين، ويراها الناس اليوم بيوت متآكلة وأزقة مهملة ودكاكين متناثرة وخالية».