تتمايل الرقاب لتتلامس الرؤوس بالرؤوس ونغط في سبات وعلى هذا الطريق، وعد آخر في زحام وضيق مع دعوات حنونة من قلب صديق لصديق.. سنبكي يوما حينما يتلاشى الحلم. هكذا كتبت المعلمة الراحلة نهلة الجابري آخر سطورها، والتي توفيت في حادث معلمات طريق الساحل قبل أيام، حصلت «عكاظ» على آخر الرسائل التي تشكلت في هيئة يوميات كانت تسجلها تحت عنوان حكايات ال «الفان». «تلمح السعادة في أعينهن، إذ يشع اسمها على صفحة صحيفة يومية معلنة انضمامها لقائمة تطول من حاملات لقب «معلمة»، وتقيم احتفالا عائليا صغيرا.. وسط آمال وأمنيات وأحيانا بكاء التعيين». صباح اليوم الأول.. تنتظر السيارة التي ستحملها إلى مقر حلم طال البحث عنه مجسدا على أرض الواقع تنتظر.. تنتظر.. تنتظر! حماسة بلا معالم تحتل ملامحها وأذان الفجر مازال بعيدا.. بعيدا سيارة كبيرة تتقدم ببطء نحو منزلها.. (فان فاخر) يحمل شعار إحدى الشركات المتخصصة في نقل المعلمات وطالبات المدارس توقفت السيارة.. مدت يدها وفتحت الباب.. لتدلف إلى عالم جديد.. لم تحلم يوما أن تكون ضمن مواطنيه. وعلى بركة الله.. ردت: «السلام عليكم» ظنت أنها تدخل سيارة فارهة على أقل تقدير وطالما فكرت أنها ستجاور النافذة في رحلتها الطويلة وإذا بها تصعق أنها دخلت إلى غرفة مهيأة للنوم.. لا أكثر لم تجد مقعدا.. ولا شباكا.. ولا حتى فاصلا بين المساحات المتقاربة بين الراكبات.. كل ما هنالك هو فراش أسفنجي وثير، ووسائد بكل الألوان، وأغطية دافئة تغري بالنعاس، وسط ظلمة!! أشعلت إحداهن النور فجأة، وإذا بها تجلس مع سبع معلمات أغلبهن على مشارف الثلاثين.. أو أكبر قليلا.. «وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته» لاحظت في أعينهن تعبا.. ورثاء لروحها الموشكة على خوض المعمعة! رحبن بها على طريقتهن العابقة برائحة القهوة.. والتمر اللامع.. والكثير الكثير من التثبيط لهمتها الفتية.. مازلت في أول المشوار، «ستمحى هذه الابتسامة بعد أقل من شهر» «اتركوها تكتشف بنفسها.. ربما كانت أوفر حظا منا جميعا» تدريجيا بدأ السكون يتخلل أركان الفان وأصواتهن المختلطة بتثاؤب لا ينقطع اعتدلن في صف منتظم.. توسدن الصوف المندوف.. قرأن أذكار ما قبل النوم، وانطفأ النور فجأة. صارت -هي- تتقلب يمنة ويسرة، لم تعتد النوم على الطرقات التي تمنعها اهتزازاتها المتقطعة من الخلود إلى غفوة أو حلم.. يتوقف (الفان) لأداء الصلاة وتعود هي محشورة بينهن تتأمل الظلام الذي لم يخترقه سوى ضوء جوال زميلتها التي استخدمته كمصباح تقرأ بواسطته كتيب الأذكار اليومية غطت عينيها بطرحتها.. وغابت مع غفوة غريبة لم يتخللها إلا انزعاج مشترك من الحجارة المنثورة على الطريق.. والتي أقضت مضجعهن المتحرك دليلا على اقتراب وصولهن إلى المدرسة.. بدأ الفان يتثاقل .. وبدأن يحكمن لف حجابهن استعدادا للنزول.. أزاحت الستارة التي تجاورها.. ورأت بيتها القادم لسنوات لا تفكر في إحصاء عددها مقصدها يوميا بعد 3 ساعات من السفر الصباحي المضني.. معلمات الفان مرحبات فيما ظهر.. كارهات في كل ما عدا ذلك أليست تلك دخيلة ستسرق مساحة مقعد؟ وتجبرهن على الاستيقاظ في وقت يسبق ما تعودن عليه؟ أليست تدخل مبتسمة تقض مضاجعهن ببشاشتها التي تصطدم كل صباح بوجوههن التي ما عاد يعجبها إلا الوجوم فكل واحدة منهن ترى أنها واحدة أتعس المخلوقات. صدقا.. لم نعد نخبر أحدا بما يعترينا عبر فصول أيامنا. آباؤنا وأزواجنا لم يعودوا يسألون.. فإن بادرنا باءت مبادراتنا بنقاشات نخطأ في آخرها! صرنا نبتسم ليل نهار.. نخبر الجميع أن الحياة حلوة.. وأن الطريق سالكة.. وأن الفان بيتنا الثاني صار أحلى وأحلى.. وأحلى! تلك الزنزانة المتحركة تسبي أبسط حقوقنا في التنفس ففي (الفان) نرى أنثى تحلم بالزواج علنا، وأخرى تحلم بالطلاق سرا، وثالثة تنام فنسمع كل ما تحلم به دون أن تدري، ورابعة تبكي وهي نائمة، وخامسة تراقب الجميع وتحكي للجميع وتكاد تبكي على حالها وحال الجميع.. أسرارنا هنا نتركها على وسائدنا حين ننزل لمدارسنا صباحا ونعود نتشاركها ظهرا. ماذا لو ماتت غدا؟ السائق لا يتجاوز العشرين.. هاتفه لا يكف عن الرنين.. والطريق كأنها غير معبدة! رضيت الزميلات بدفع ضعف ما تدفع كل زميلاتهن في السيارات الأخرى ماذا لو ماتت غدا؟ وهي مازالت تحلم بأن ترى طفلها يرتدي زيه المدرسي وتعطيه وجبته وتحصنه بكلمات الله التامات ثم تلبس عباءتها.. وتتوجه لمدرستها المزدحمة ماذا لو ماتت غدا؟ سيبقى كل ذاك «حلم ظهيرة».