السلام عليكم حاشا العبيد والنسوان. سلم رجل وصل للتو. أردت أن أسأله لماذا حاشا العبيد؟ ولماذا حاشا النسوان؟ لكنني صمت. يكفي أن ترى هيئته، وطريقته في ارتداء الملابس حتى تعرف أنه من الصعب على هذا الرجل الضخم أن ينسى العبيد والنسوان الأقل إنسانية من وجهة نظره، ونظر الرجال الذين استقبلوه. حتى اللغة لم تكن محايدة تجاه لون بشرة هؤلاء الرجال فقد خصصت لهؤلاء كلمة «أخضر» لتدل على سمرتهم، في مقابل «أسود» للعبيد. كيف حالكم ؟. سأل الرجل الجالسين ؛ إذ يجب أن يبدأ الحديث بطريقة ما. لا بد من أنكم تعرفون إنسانا، أو على الأقل سمعتم عن إنسان متقدم في السن، لكنه يبدو أصغر مما هو عليه، وقد كان هذا العجوز من أولئك الذين أفترض أنكم رأيتموهم. عيناه تشعان مثل عيني حيوان بري في حرش من أحراش جبل شدا الأعلى. اندهشت من المشاعر التي منحتني إياها تلك العينان؛ تنبعث طاقة العجوز منهما، وقد اعتقدت أن لتلك العينين معنى لكنني أجهله. لم أفهم مدى قدرته على أن يخلق حميمية بتلك السرعة. لقد أكمل دائرة من كبار السن في مقهى الحمراني في مدينة المخواة. هؤلاء هم ضحايا التهجير الذي لم نكن نحن الأبناء نشعر به؛ فهناك هوة تفصل بيننا، شيء ما حدث أبعد جيلهم عن جيلنا. أنت من وين ؟ سألني.. من جبل شدا الأعلى.. ما قد شفتك. من أي قرية ؟ ..أنا من مِساك.. تقرب لأحمد بن سفر؟.. هذا جدي.. أنت ولد جمعان بن عبدالله ؟.. نعم.. قام ثم حضنني.. أبغى أشم رائحة أبوك فيك. لا تستطيع اللغة المكتوبة أن تبعث الحياة في تلك اللحظة. بسبب لا كمال اللغة، هناك إخفاق في عرض ود هذا الذي عاد إلى مكانه، وقد اختلط بالأزمنة والأمكنة. ما هو كائن، وما هم صائر إليه. كيف يمكن اللغة المكتوبة أن تبعث الود الذي شعرت به وهو يقول لي: المودة بين السلف ميراث بين الخلف. أعرِق له وأنا عمك. قال لي ذلك وهو يتحدث عن أبي، ويترحم عليه. وينصحني بأن أكون مثله. فيما مضى عاهدت نفسي ألا أقع في شرك التفكير في موت أبي. لم أعد أتحمل الانهيارات العصبية، ولا الكآبة، لكن، بينما يتحدث صديق أبي عنه، وبرغم ما بذلته من جهد، يمثل أبي أمامي. لو أن أبي حي لكان في عمره. أبي الذي عاد إلى جبل شدا الأعلى كي يدفن في الجبل الذي أحبه. يعرف أنه سيموت. قال صديق أبي. منذ أن صمم على أن ينهي عمله في مقهى في جدة. عاد إلى جبل شدا الأعلى وأنا في الرابعة من عمري. أحبك أكثر من أي شيء في حياته. قال صديق أبي. اشترى لك سروالا، وفنيلة، وثوبا، وعمامة، وعقالا، وهو ما لم يكن معهودا في جبل شدا الأعلى؛ حيث الأطفال لا يلبسون العقال، والثياب تفصل عند خياط شدوي. أتباطأ الآن عند مشهد وصوله أكثر مما تباطأت آنذاك؛ لأنني مريض. هذه العودة إلى مشهدٍ ظننت أنني أبعدته من حياتي، كان بسبب حديث علي بن عثمان الذي يغالب دموعه. ما إن وصل حتى استلقى إلى جانبي، مازلت أتذكر المودة التي أحاطت بجسمي كله. وهو ينظر إلي شاهدت في عينيه حزنا لا علاقة له بهذا العالم. حرارة أنفاسه في وجهي، لأن وجهه قريب من وجهي.